أفول الليبرالية.. بوادره لم تعد تكهن المحللين السياسيين، ولا أماني الشعوب المقهورة بتوحش «السوق الحر»، ولا شعارات الأيديولوجيين المناوئين للغرب، بل هي واقع، إن لم يشعر به الليبراليون؛ فهناك كيانات كبرى تعمل لأجله، كروسيا سياسيا وعسكريا، والصين اقتصاديا، بالإضافة إلى المناوئين التقليديين من اليساريين والإسلاميين. المقال.. يحاول أن يقرأ إرهاصات التحول عن الليبرالية.

الليبرالية.. مصطلح ذو حمولة فلسفية وعملية، أضرب صفحا عن تعريفاته، التي أصبحت منثورة على قارعة الإنترنت. الليبرالية.. تقوم على مفهوم الحرية الفردية والملكية الخاصة. هذا الجذر هو المحرك للتحولات التي قدمتها الليبرالية، على مستويات الفرد والجماعة والدولة، وبه قضت على نظام الرق عالمياً، وحررت الفرد من «قطيع الجماعة»، وخففت من وطأة الكهنوت على المتدين. واقتصادياً.. أوجدت «السوق الحر» الذي لا سلطة لأجهزة الدولة عليه. وفي السياسة.. تبنت الديمقراطية لتقرر الشعوب مَن تختار لحكمها. كل هذا مُدرَك انتشاره عالمياً، وتأثيره العميق على النفس الإنسانية، فبهذه المعطيات العملية استطاعت الليبرالية أن تنقل البشر من العالم القديم إلى العالم الجديد، فحدّت من عمل معظم المعتقدات والكيانات السابقة على الواقع، وجعلتها تعاني من أزمة إثبات وجودها، بعد أن أزاحتها عن إدارة مؤسسات الحياة الفاعلة على المستوى الدولي.

لقد وصلت الليبرالية ذروتها، وتتوجت في أعين أنصارها بتاج خاتمية التاريخ، لكن التأريخ ينفي نهايته بالنظريات. إن كل نظرية تصل لحد إيمان أصحابها بأنها «هي الحل لكل زمان ومكان»؛ فقد بدأ خط نزولها.

هل بدأت الليبرالية في التراجع؟ وما البديل الذي سيحل محلها؟

على مستوى الجماهير.. لا أستطيع الزعم بأن الليبرالية في انحسار، فمعارضوها كمؤيديها بين مد وجزر، منذ ما بعد سقوط النظام الشيوعي؛ على الأقل. إلا أنها على مستوى السياسة الدولية، يوجد الآن منافسان عتيدان؛ هما: روسيا.. ذات التوجه الدوجيني (نسبة للروسي ألكسندر دوجين)؛ الذي يعتبر الليبرالية خصمه اللدود. والصين.. ذات التوجه الشميتي (نسبة للألماني كارل شميت، ت:1985م)؛ فهي وإن تبنت الرأسمالية إلا أنها لم تنتظم في سلك الليبرالية، بل طوّرت مفهوماً اقتصادياً عُرف بـ«الرأسمالية الماركسية».

لننظر في آلية عمل الليبرالية؛ فهي تعمل بطريقتين معاً: الحرية الفردية، والتوحيد بين إدارة الدولة وإدارة الشعب. بالنسبة للأولى.. فتت الليبرالية المجتمع وفككت الأسرة وضربت صميم التكوين الإنساني. فعلت كل ذلك باسم المساواة أمام القانون، بل أعادت بناء مؤسسات المجتمع والدولة على هذا الأساس. ولا اعتراض على فكرة القانون والمساواة، فهما ليسا حكراً على الليبرالية، بل كانا قائمين قبلها بآماد، وما من فلسفة أو دين لم يقل بهما. لكن عندما يكون القانون السندان والمساواة المطرقة في الإطاحة بمنظومات تركبت عليها البشرية منذ مهدها الأول؛ فاعلم أن المعارضة تجاهها لن تخبو. صحيح؛ أن النظريات الشمولية التي قامت ضدها ماتت في زمنها، وهي لا تزال صامدة، لكن هذا لا ينبغي أن يصرف أنظارنا عن حركة التاريخ التي تقول بأن المعركة بين الليبرالية ومناوئها لم تنتهِ.

هذه المرة.. لن تقتصر المعارضة على نهوض أنظمة سياسية؛ وقد بدأت بذلك روسيا والصين، وإنما ستكون أيضاً من قِبَل الناس، وليسوا ممَن يعيشون في أنظمة غير ليبرالية، بل ممَن ترعرعوا تحت نظامها، وعاش آباؤهم وأجدادهم في كنفها، وما المظاهرات التي حصلت في فرنسا وأمريكا عنا ببعيد، وهذا يدل على أن توحيد إدارة الدولة وإدارة الشعب هدف بعيد المنال. والغرب.. يشعر الآن بأن هناك احتقاناً شعبياً ضد ممارسات حكوماته، وتذمراً من القوانين، رغم أن الليبرالية ركعت في كثير من قوانينها أمام ضغوط اليسار الاشتراكي.

الإعلاء من شأن الفردية لا بد له من حدود، فليس هناك شيء لا نهاية له، فعدم النهاية محض وهم. وعدم وقوف الليبرالية عند حد معين، والذهاب إلى إذابة جوهر الإنسانية؛ المتمثل في الإيمان والأخلاق والحياة والأسرة، هو إرهاص بأفول الليبرالية. فإباحة الإجهاض ليس قتلاً بيولوجياً لإنسان فحسب، بل هو نزوع نفسي لتفاهة الحياة لدى أصحاب هذا المعتقد، وأنانية مدقعة لحب الإنسان لنفسه على حساب أقرب مخلوق لديه، فما بالكم بالبعيد عنه. إن إهدار الليبرالية لحياة الإنسان بهذا الشكّل هو ما يمكن أن يُفسَّر به حوادث القتل المتتابعة في أمريكا، وهي لا تحصل من قِبَل جماعات إرهابية، وإنما يقوم بها أفراد في مقتبل العمر، وما أن ينهي أحدهم عملياته المروعة حتى يزهق نفسه بسلاحه، في أعنف مشهد دراماتيكي يكاد تقصر عنه دراما العنف.

أما المِعْوَل الثاني لتحطيم كينونة الإنسان فهو تشريع «المثلية الجنسية»، وهذا الشذوذ قديم، لكنه كان يمرس انحطاطاً أخلاقياً وسقوطاً اجتماعياً. لم تكتف الليبرالية بتحطيم الأسرة؛ اللحمة الاجتماعية التي تحمي الفرد. نعم؛ هناك ما يُنتقَد في المجتمع، وهو ما يأتي المصلحون لإصلاحه، لكن أن ينزع من المجتمع ضميره الأخلاقي فهذا طريق للفناء الإنساني. وكون أن القانون يحل محل الأسرة في تنظيم الاجتماع فهذا بحد ذاته انتزاع للدفء الأسري الذي يحتضن الفرد، ورمي به في جدباء القانون القاحلة. فـ«المثلية الجنسية».. هي آخر حلقات تحطيم جوهر الإنسانية؛ فلا تستطيع بعدها أن تدين المخدرات والانتحار و«القتل الرحيم»، فما الذي يمنع إتيان هذه الأفعال طالما يعملها الإنسان بدعوى أنه لا يمس غيره بضرر، وهي فعلاً الآن مقننة في الدول الليبرالية. أما المجتمع بكونه قيمة إنسانية أصيلة فلم يعد من اهتمام الليبرالية، وإن لم تعارض وجوده بصورة مباشرة.

ما البديل عن الليبرالية؟ قبل الجواب؛ هناك حقيقتان:

- لا يمكن للأنظمة القديمة أن تعود، فما تجاوزه الزمن لا أوبة له، إلا في وَهْمِ المؤمنين بها، الذين تعتلج نفوسهم بأحلام عودتها، ويمارسونها طقوساً غير قابلة لإدارة الحياة.

- أي بديل لا ينجح من دون جماعة تدعو إليه، فحتى الليبرالية التي تعلي من شأن الفردية لم تنتشر إلا عبر دول قوية، فرضتها على العالم عبر السفن الاستعمارية، وبالاتفاقات الدولية والآلة الإعلامية، وقوافل الاقتصاد الحر، وبالطائرات الحربية.

الأنظمة القديمة، بل والأنظمة الصاعدة كروسيا والصين، غير مؤهلة لسيادة العالم، قد تنتصر على الليبرالية، أو تهدد زوالها، بيد أنها لن تلبث طويلاً وستنهار هي الأخرى.

البديل.. لا بد أن يقوم على الثوابت الإنسانية: الإيمان بالله والأخلاق واحترام الإنسانية. لا أقصد بالإيمان المنظومات الدينية التي انبثقت من تفاعل المتدين مع الدين، فهي تشكّلت وفق زمانها، وأدت ما عليها، وانتهى دورها. وإنما على البشرية أن تعمل على بناء منظوماتها وفق هذه الأصول الثلاثة بما يتناسب مع عصرها. فالإيمان بالله يكفل الوحدة الشعورية التي تؤمن بأن العالم بتعدده يمكن أن يتكامل دون صراع. وهو كذلك يعصم التفكير من الخرافات التي اختلطت بالمعتقدات، لأن هذا الإيمان يوقن صاحبه بأن الله أودع مشيئته في سننه الاجتماعية ونواميسه الكونية. الإنسانية.. اليوم بحاجة ماسة إلى مرفأ آمن تلجأ إليه سفنها التي تعصف بها أمواج المادية العاتية.

والإنسانية.. كذلك بحاجة إلى قاعدة أخلاقية ترتفع بها عن الفساد الذي ظهر في البر والبحر، الأخلاق.. التي تؤكد على كرامة الإنسان، وتحترم فطرته السوية، وتفرض السلام بديلاً لا محيص عنه عن الحروب والنزاعات. هذه المنظومة الأخلاقية يجب أن يؤمن الإنسان بأنها سفينة خلاصه المبحرة نحو محبة الله وخير الإنسان، وليست مفروضة عليه بسوط القانون أو وعيد المعتقدات. على الإنسانية أن تسعى إلى بنائها والتبشير بها في العالم، وتشكيل المؤسسات والقوانين وفقها. إنها البُنية التحتية للوجود الإنساني، وكل ما عداها بما في ذلك الاقتصاد ومناهج التفكير والتعليم بُنية فوقية فحسب.