لم أتخيل يوما بأنني سأصبح أمين مكتبة بين مئات العناوين أشرف عليها من أجل أن أرى عالما من الدهشة في أرجائها.

حكاية المكتبة وتأسيسها ليست هي الموضوع الأهم هنا، ولكن سأخبركم بأنها كانت كذلك نتاج دهشة ناشر كويتي شارك لأول مرة في معرض مسقط الدولي للكتاب حينما أثار إعجابه إقبال المجتمع العماني للقراءة بكل شغف.

هاتفني الكويتي أ.جاسم العمران صاحب دار بوك لاند للنشر والتوزيع يوما قائلا:

هل لنا أن نفتح سويا مكتبة في مسقط؟!

وبعد تردد قلت: نعم، فتم ذلك بعد سلسلة من الإجراءات كانت سيدتها وزارة الإعلام ووزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار.

ها أنا اليوم أعيش بين الكتب، أخذني القدر هناك لأشاهد أروع ما مر بحياتي كلها، فالمكتبة كقطار الحياة، والكتب محطاتها، سترى هناك المقبلين بجميع فئاتهم العمرية والمغادرين بعد وصولهم لغاياتهم، تخيل هذا المشهد الذي لا أستطيع وصفه بسبب اقترابي للكثير من الشخصيات المختلفة في طباعها، وتوجهاتها، ونقاشاتها.

وودت أن أشارككم هذه الدهشة لبعض المواقف هناك علها تثير في أحدكم رغبته للجلوس في إحدى المكتبات لفترات طويلة، فالمكتبة أجمل نافذة ناصعة تشاهد من خلالها بكل تركيز أفكار المجتمع وتوجهاته وتربيته.

كنت أتصفح كتابي في سكون حتى وجدت أمامي طفلا بعمر الثامنة يحاول جاهدا أن يفتح باب المكتبة قبل والده، هو ذات الباب الذي أخطأ دائما في فتحه بسبب قانون تركيبته إدفع للأمام، أو اسحب للخلف!

دخل الطفل منتشيا بعدما انتصر على الباب، وكأنه يستنشق رائحة الكتب كعطر وجده في أجمل المحلات، يقول لوالده بلكنة بريئة:

الله باه المكتبة حلوة .. الحمدالله حصلناها مفتوحة..

سلمت على والده والطفل الذي لم يكترث لي فهو في تلك اللحظة انتقل من عالمنا إلى عالمه المليء بالعناوين والصفحات!

كان يردد بغرام منقطع النظير لكل كتاب قرأ عنه مسبقا في عالم التواصل الاجتماعي، ووجده أمامه ماثلا في ذلك الرف الخشبي المكتسي باللون الأسود مع قليل من الغبارالمتسرب خلسة من الأبواب، كان يحاول القفز لأخذ الكتاب الذي أعجبه، أمرني وهو لا يرى سوى الأرفف أريد هذا وذاك وأخذ يكرر مطالبه وأنا استجيب لأوامره مدهشا من الحب الذي يجمع الطفل بكتبه الجديدة، أشفقت على والده لأنني أعلم بأنه في نهاية المطاف سيدفع مبلغا ليس بالهين لشراء كل هذه العناوين، فأخبرته هل من مانع لديه أن أجلب من الأرفف كل هذه الكتب لطفله؟!

قال وهو مبتسم :

"لا بأس لأنني أعلم تماما مدى تعلقه بالكتاب، سيقرأ كل هذه الكتب خلال شهر واحد فقط، إن احترامي لرغبته الشديدة للقراءة تسعدني جدا، فهذا الطفل ألعابه هي قراءة الكتب، غرفته عبارة عن مكتبة متناثرة من العناوين، لقد اعتاد وهو طفل في سن الثانية من عمره أن يرى والدته وهي تقرأ له القصص في كل ليلة من كتاب تختاره خصيصا لهذا الغرض، كنت أظن بأن الطفل وهو بهذا العمر لا يستطيع أن يفرق بين كلامنا الذي يداعب طفولته، وبين محتوى القصص التي يسمعها ويرى بأم عينيه والدته ممسكة بالكتاب تتصفحه من أجله".

كنت أقول في نفسي ووالده يتحدث هل كانت رائحة الحروف تلامس روحه حينها؟!

لا أعلم حقيقة الأمر ولكنني ما أعلمه بأن تأثير هذا المشهد لم يمر عليه مرور الكرام.

كان يحدثني وهو فخور بفلذة كبده، وأنا في المقابل أعد له الفاتورة الواجبة الدفع، أخذها بكل هدوء ورضا وهو يرى طفله محاطا بالكتب التي انتقاها بقناعة وعناية وكأنه اشترى للتو ألعابه المفضلة.

أدهشتني جدا خطة الطفل لاقتناء هذه الإصدارات، لم تكن اختياراته محض صدفة، بل مدروسة بعناية، وواضحة أمامه كالشمس بعدما تصفح منصات التواصل الاجتماعي والخاصة بالكتب وما تحويه من خلال قراءته للنبذة المختصرة لكل عنوان.

وأدهشني أكثر فعل الوالدين من أجل تربية الأبناء على القراءة، وأين نحن من هذا الأسلوب التربوي أقلها لقراءة قصة بشكل دائم لطفل قبل النوم لا يرى من الحياة إلا ما يراه والداه؟!

سرحت وأنا اسأل نفسي هل يا ترى تأتي هذه الحكايات في أحلامهم فتبقى لتنير دروبهم حينما يكبرون؟!

فجأة أخذ الطفل يضرب بأقدامه على أرضية المكتبة المخشبة، توقعت لحظتها بعد أن أعادني إليهم بأنه يريد أن يأخذ من محل الآيس كريم المقابل للمكتبة اختياره الخاص كأي طفل يغريه مشهد كهذا مستثمرا بذكاء طيبة والديه، ولكن المفاجئة كانت عكس ما أتوقع، فقد تعمد بحركته هذه أن يعاتب والده الذي دار بيني وبينه نقاش مطول لأعرف وأتعلم منه كيف أجعل من ولدي قارئا، قاطعنا هذا الغارق في كتبه، قائلا ومتوسلا والده بضرورة الرجوع إلى البيت حالا لرغبته الشديدة في قراءة الرواية المترجمة لحكاية روبن هود كبداية النور لمجموعته الجديدة والتي تحييه فكرا وروحا وذوقا وأدبا.

هذا المشهد سيجعلك تؤمن حقا بأن المجتمع لا زال بخير، وبه الكثير من الأمثلة الرائعة لنا لنتعلم في هذه الحياة كذلك من بعض الأطفال الكبار جدا في عالم القراءة.

أيها القارئ العزيز، سأخبرك في المقال القادم كيف أصبحت المكتبة كذلك مستشفى لعلاج الآلم النفسية من خلال ما شاهدته في رحلتي الممتعة هذه بقطار الحياة الذي يشق طريقه بسكة كتب مساحتها 90 مترا!