نحن نعيش الخوف مما سيقال عنا، الأمر الذي يدفعنا لعدم إبداء الرأي في شيء، أو يدفعنا إلى الانحياز لطبيعة لا تشبهنا، كأن نُخفي انتماءنا إلى ريفٍ بسيط أو أن نخفي لهجتنا ومفرداتنا ونجعلها تتوارى خلف كلمات نظنها رصينة ومثالية. وكأن هنالك من ينتزعنا دوما من مكاننا، من صورتنا التي نتآلف معها إلى صورة مُشوهة عنا، لكنها أكثر قبولا.

لقد عانت آني إرنو من الخجل من والدها الذي لا يقرأ، وعند وفاته أصابها إحساسٌ عميقٌ بأنّها خانت طبقتها الاجتماعية، "عالم العُمال والفلاحين.. الشعبوية البائسة"، ولذا قررت أن تكتب لنا عن حياة والدها كما تستعيدها، تكتبُ لنا عن المسافة التي وقعت بينهما. لكن كيف يمكن لهذه المكاشفة أن تحدث عبر رواية أدبية؟

تتحدث آني إرنو عن موت والدها بطريقة مُحايدة في روايتها "المكان". بالتأكيد هي لا تصنع لنا رواية مُشوقة عن الموت؟ وإنّما تجمعُ الوقائع البارزة في حياته دون حنين ودون تواطؤ مع قارئ مثقف كما تشيرُ في مقدمة روايتها، فقد كان رهانها على تلك المسافة الواعية لإعطاء صورة سليمة عن رجل عادي.

لقد بدا الأمر اختراقا للمحظور، الحديث عن النفس من موقع يراه الناس منطقة دنيا، فهي تريد أن تقدم لنا حدود ولون العالم الذي عاش فيه أبوها حيث لا يمكن أن تستبدل كلمة بأخرى.

"أن تكون فلاحا ذلك يعني أنّك لست متطورا، ذلك يعني أنّك متأخر عمّا يجري في الملبس واللغة والمظهر". ففي وقتٍ ما، كان يمكن لأحدهم أن يتحول لنكتة سمجة عندما يقف مذهولا أمام غسالة كهربائية متأملا الغسيل وهو يدور في الفجوة. تنتقد إرنو هامش الحرية المحدود الذي استقر عليه والدها، ولكنها عبر هذه الرواية تريد أن ترينا المقهورين وكيف عبروا الحياة.

تتحدث إرنو عن الخوف الذي أصاب والدها من تآكل المال بين يديه بينما كان يشق طريقه في حياة وعرة. الوالد العامل في مهن عديدة، الذي حاول أن يبدو تاجرا أكثر منه عاملا، لكنه ليس برجوازيا على كل حال، حتى الصورة التي يظهر فيها، تظهر خلفه المراحيض! الوالد الذي لا يضحك في أي صورة، رغم أنّه يلتقط الصور مع ما يفتخر بامتلاكه، كالمقهى والدراجة.

لكن والدها لعب دورا في الحرب، وتحول إلى بطل لحتمية الضرورة لا الاختبار، حدث ذلك عندما كان يشدُّ عربة الطعام إلى دراجته من أجل فقراء الوادي.

إنّها تتحدثُ عن الخوف والخجل عندما نكون في غير مكاننا. حتى أفلام تلك المرحلة كانت تدفع الناس لتنهمر دموعها بسبب سفاهات الريفيين الذين يسؤون التصرف دائما، "ندركُ نقصنا ونحاول أن نخفيه قدر الإمكان"!

نشأت بينها وبين والدها مشاحنات كثيرة بسبب اللغة أكثر مما نشأت بسبب قلّة النقود. كان والداها يعملان بأياديهما، بينما دفعت الحكومة لها لكي لا تصنع شيئا بأصابعها وإنّما كي تدرس الآداب الحديثة. الأمر الذي أوقع والدها في الغيرة، ربما لأنّها كانت تغرق في تصور مثالي للعالم والمثقف والبرجوازي.

وبقدر ما تضيء هذه الرواية حياة والدها كانت تضيء حياتها ومشاعرها أيضا. كانت آني إرنو تمتلك الشجاعة وهي تصف رغبتها في الانعتاق بصورة حادة من حياة والديها.

بطريقة أو بأخرى خاض بعضنا تجربة آني إرنو، تلك الرغبة بالصعود في السلم التعليمي والاجتماعي والانسلاخ من روح الفلاح البسيط أو العامل، وربما لزمنا الكثير من الوقت لاستعادة الحنين وتقبل الماضي كما هو، بل واعتباره صانعا لنا.

ولأن الكتابة هي "الملاذ الأخير لمن خان" كما يقول جان جينيه، فكأنّما نلمسُ في هذه الرواية تكفيرا عن ذنب ما، ذنب التخلي.

"انتقلتُ من عالم أبي عالم أبي إلى عالم البرجوازية المنفتحة "، لقد كان صراعها مع والدها مُعبرا عن صراع الطبقات الاجتماعية السائد آنذاك في المجتمع الفرنسي، والذي قد لا ينفصل عن أوهامنا العربية الآن.

"كتابٌ يُعيد اكتشاف أشياء مدفونة، موجعة، مُعاشة في الخجل"، ولقد كتبته آني إرنو ليس من أجل أن تتحرر عبر الكتابة وحسب، وإنّما عبر مشاركة الآخرين هذه التجربة.. أولئك الذين يعيشون مُمزقين بين ثقافتين.