بات واضحًا اليوم، أن مصائر الحرب الروسية-الأوكرانية تعكس قلقًا عالميًّا، ليس فقط لجهة أن البلدين أكثر بلدين مصدّرين للحبوب، خصوصًا إلى بلدان المنطقة العربية وإفريقيا، بل كذلك لجهة حساسية الوضع في أوروبا من هذه الحرب، وقلق الولايات المتحدة من ملفات أخرى قد ترتبط بمصائر هذه الحرب -إذا ما انتصر فيها بوتين- كعلاقة الصين مع تايوان التي تحرص الولايات المتحدة على أن تكون بعيدةً عن أي تأثير بأصداء هذه الحرب.

بصورة من الصور، ثمة ارتباط كبير بمصير أوروبا وأمريكا من ناحية، ومصير بقية العالم من ناحية أخرى، إذ يشكل الغرب الكبير اليوم قلب العالم النابض الذي تتأثر كثير من بلدانه بمصير ذلك الغرب.

لقد قرأ الأوروبيون مبكرًا ما تهدف إليه الحرب، ويبدو أنهم قد أدركوا تمامًا، كم كان فادحًا أن يكون في خاصرة أوروبا نظام تولتيتاري، كالنظام الروسي، رغم الكلفة العالية لانتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية عبر التحالف مع جوزيف ستالين الذي أدى دورًا كبيرًا في نهاية ألمانيا النازية.

فجأة صحا الأوروبيون وأدركوا أن سياسة القيم التي انتصر بها المعسكر الليبرالي الرأسمالي على الاتحاد السوفييتي، في الحرب الباردة، بسقوط جدار برلين وتفكك دول الاتحاد السوفييتي بفضل القوة الناعمة لليبرالية وحقوق الإنسان، لن تجدي نفعًا في زمن العولمة، وأن هذه الحرب التي كشفت فجأة تلك العلاقة المتشابكة لأوروبا وحاجتها للغاز والنفط بنسبة أكثر من 40% على روسيا، بدت كما لو أنها كابوس يتعين على أوروبا التخلص منه مرةً وإلى الأبد.

تدرك أوروبا اليوم أكثر من غيرها؛ أن هذه الحرب حربها وحرب العالم من ورائها، ولهذا فإن حساسية دعم أوكرانيا التي انخرطت فيها أوروبا على قلب رجل واحد إلى جانب الولايات المتحدة تكشف لنا إلى أي مدى أصبحت هذه الحرب خطرة.

إن مصير الحرب الروسية-الأوكرانية وقد تعبأ خلفها المعسكر الغربي بإصرار إلى جانب أوكرانيا سيكون مؤثرًا على شكل العالم بعد نهاية هذه الحرب.

فاليوم؛ إذ تهدد هذه الحرب بمصير نووي محدود في بعض أقصى احتمالاتها كارثيةً فإنها ستكون بذلك قد تجاوزت الافتراضات التي كانت تقول بتغيير في موازين القوى العالمية باتجاه عالم متعدد الأقطاب.

واليوم، إذ كشفت الانتصارات الأخيرة للأوكرانيين عن هشاشة التسليح الذي كانت تختبئ وراءه أسطورة الجيش الروسي، فإن ذلك بحد ذاته سيحيلنا إلى إشكالية التحدي الذي سيرفعه بوتين وهو يدرك أنه يحارب الغرب من وراء أوكرانيا.

يخوض بوتين هذه الحرب وهو يدرك أنه يلعب لعبة خطرة على مصيره ومصير روسيا لكن طبيعته العنيدة قد تخفي وراءها خطرًا غير متوقع قد يفاجئ الجميع، لا سيما عبر الخطوات الانفرادية التي اتخذها قبل أسبوعين من ضم جزء من الأراضي الأوكرانية إلى الاتحاد الروسي بطريقة مخالفة للقانون الدولي.

تمضي موسكو نحو الحرب، في الوقت الذي تدرك فيه تمامًا أنها تخسر، كما تدرك فيه أن العملية العسكرية الخاصة -كما تسميها- هي في الحقيقة غزو غير مشروع وغير مقبول بحكم مواثيق الأمم المتحدة والقانون الدولي.

ومع حلول هذا الشتاء الذي يطرق أبواب أوروبا ستدرك الأخيرة اختبارًا شديدًا لتجربة البقاء بعيدًا عن الغاز والطاقة الروسيين، وكلفة ذلك البعد على تماسك شعوبها تحت ضغط فواتير الغاز والكهرباء.

كل حرب في أوروبا هي حرب داخل العالم، فالحروب بالقرب من الحدود الجيوسياسية لأوروبا الغربية -كما يفعل بوتين اليوم- ثبت أن آثارها وردود فعلها ستطال العالم، كما كان ذلك خلال الحربين العالميتين في القرن العشرين.

عالمنا اليوم يتأثر كثيرًا بحرب الغرب ضد بوتين، عبر أوكرانيا، حتى قبل أن يتسع نطاق الحرب إلى أوروبا -لا سمح الله- ومع احتمال كل التطورات التي يمكن أن تسفر عنها هذه الحرب فإن حرص أوروبا على عدم الانجرار للحرب لا يفسره دعمها لأوكرانيا بالعتاد الحربي، بل يفسره حرص الحلف الأطلسي باستمرار على تجنب أي اصطدام مع روسيا. فدعم أوروبا لأوكرانيا بالعتاد الحربي هو جزء من سياج الحماية المشروع لحدودها الجيوسياسية، وروسيا تدرك هذا جيدًا، لكنها تدرك كذلك أن لا طاقة لها بمواجهة الغرب كله: (الولايات المتحدة - كندا - أستراليا - وأوروبا) لأن أي خروج عن نطاق الحرب في أوكرانيا إلى أوروبا سيعني حربًا عالمية!