زرتُ المنامة للمرّة الأولى في ديسمبر 2018، بدعوة من أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين، لإحياء أمسية شعرية برفقة صديقي الشاعر عدنان الصائغ، أقيمت في مقر الأسرة، وكانت تلك الزيارة قد تأخّرت كثيرًا، بسبب ظروف شتّى، وحين وصلت مطار المنامة الدولي وجدت الدكتور علوي الهاشمي والكاتب كريم رضي بانتظاري، فردّدتُ بيتين من قصيدة للشاعر غازي القصيبي هما:
بحرين هذا أوان الوصل فانسكبي
عليّ بحرين من درٍّ ومن رطبِ
تنفّسي في شجوني وادخلي حرقي
واسترسلي في دمائي واسكني تعبي
وسرعان ما زال التعب، وكان الصائغ قد سبقني بالوصول للمنامة التي زارها مثلي للمرّة الأولى، وقبل بدء الأمسية، قال لنا الدكتور علوي الهاشمي الذي قدّمنا للجمهور: «سعداء بوجودكما بهذا المكان الذي سنحتفي به في العام المقبل باليوبيل الذهبي للأسرة التي تأسست في 29 سبتمبر 1969 م»، قال ذلك بكثير من الفخر، وله الحقّ بذلك، مثلما نحن، فلا بدّ أن يكون الحراك قد بدأ قبل ذلك، لكنه نضج وتطوّر، وتمخّض عن ولادة الأسرة التي حقّقت حضورًا دوليًّا من بينها، كما روى لنا الهاشمي باعتباره من مؤسسيها، وهذا ليس بجديد علينا نحن الذين كنا نتابع أخبار النشاط الثقافي في البحرين التي سبقت الكثير من دول المنطقة في غزارة تلك الأنشطة وتنوّعها، من الشعر، إلى المسرح، والفن التشكيلي، والفنون السردية، والتعليم بمراحله، وكانت تستقطب المثقفين والدارسين، والطلاب، وفي خضمّ ذلك النشاط، حملت على عاتقها رسالة الحداثة في منطقة الخليج، وقد قطعت الكثير من الأشواط قبل الطفرة النفطية التي جرت بمنطقة الخليج في السبعينات، ولا تشابهها بذلك إلّا الكويت، وما أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين التي تعدّ من أقدم الجمعيات الأهلية، ومؤسسات المجتمع المدني في منطقة الخليج العربي، إلّا دليل على حضور صوت المثقف البحريني، لذا غمرنا شعور بهيبة المكان، وسرعان ما تداعت في رأسي أسماء شخصيات ثقافية بحرينية لها إسهامات فاعلة في البناء الثقافي الخليجي والعربي كمحمد جابر الأنصاري، وإبراهيم العريض، وأحمد المناعي، وعلوي الهاشمي، وعلي عبدالله خليفة، وقاسم حداد، وحمدة خميس، أمين صالح، وآخرين، وبعضهم سبق لنا اللقاء بهم في بغداد خلال ثمانينات القرن خلال مشاركتهم في مهرجان (المربد) والبعض الآخر جمعتنا به مناسبات في عواصم عربية، وقرأنا كتاباتهم ونصوصهم في المجلّات الثقافيّة العربية بشكل عام، ومجلة (كتابات) التي أهدانا الشاعر كريم رضي نسخا من أعدادها.
كلّ ذلك دليل على العمق الثقافي والحضاري لدولة مدّت جذورها في أرضية حضارية تستقي صلابتها من حضارة دلمون التي تعود إلى آلاف السنين، وقد وصفت في ملحمة جلجامش بـ«الأرض الطاهرة المقدسة» و«أرض الخلود» التي كان يبحث عنها جلجامش في رحلته، فكانت، بالنسبة له، أرض الأحلام وقد وصفت بأنها تخلو من الأمراض، والأحزان، وعلى الدوام مغمورة بالنور، ولا تعرف الموت، ولا تصيح الغربان فيها، وما إلى ذلك من أوصاف وردت في الألواح الطينية المكتوبة بالخطّ المسماري، ولا تزال تلك الأوصاف محطّ جدل بين علماء الآثار، وبعيدًا عن السرد الملحمي، والنسيج الأسطوري، أكّدت المواقع الأثرية وجود مستوطنات حضارة دلمون يعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام، وقد أدرجت منظّمة اليونسكو (مدافن دلمون) على لائحة التراث العالمي، وكان لا بدّ لنا من زيارتها، والتجوال بين معالمها الحضارية، وقد أوضحت الكتابات القديمة الصلات الحضارية والعلاقات التجارية التي تربط أرض دلمون بحضارة أرض مجان، فلم تكن تلك الحضارة معزولة عن المناطق المجاورة، واستمر التواصل بين سكان عمان والبحرين، الذين تنقلوا بينهما، وتعزّز ذلك التواصل عندما أضاءت أنوار الإسلام المنطقة، واعتبر الخليفة عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) البحرين وعُمان مصرًا واحدًا، عند تقسيم البلاد الإسلامية إلى أمصار، واستمر هذا التواصل والإخاء ليشمل منطقة الخليج، فحين وقف الشاعر غازي القصيبي عام 1986 م على جسر الملك فهد الذي يربط البحرين بالمملكة رأى أن دول الخليج كلها مجتمعة:
درب من العشق لا درب من الحجر
هذا الذي طار بالواحات للجزر
واستيقظت نخلة وسنى توشوشني
مَنْ طوّق النخل بالأصداف والدرر؟
نسيت أين أنا إنّ (الرياض) هنا
مع (المنامة) مشغولان بالسمر
أم أنها (مسقط) السمراء زائرتي
أم أنها (الدوحة) الخضراء في قطر؟
خليج إن حبال الله تربطنا
فهل يقربنا خيط من البشر؟
وتبقى دروب دلمون معبّدة بكلمات العشق التي تعزّز أواصر المحبة والأخوّة المنقوشة على القلوب.
بحرين هذا أوان الوصل فانسكبي
عليّ بحرين من درٍّ ومن رطبِ
تنفّسي في شجوني وادخلي حرقي
واسترسلي في دمائي واسكني تعبي
وسرعان ما زال التعب، وكان الصائغ قد سبقني بالوصول للمنامة التي زارها مثلي للمرّة الأولى، وقبل بدء الأمسية، قال لنا الدكتور علوي الهاشمي الذي قدّمنا للجمهور: «سعداء بوجودكما بهذا المكان الذي سنحتفي به في العام المقبل باليوبيل الذهبي للأسرة التي تأسست في 29 سبتمبر 1969 م»، قال ذلك بكثير من الفخر، وله الحقّ بذلك، مثلما نحن، فلا بدّ أن يكون الحراك قد بدأ قبل ذلك، لكنه نضج وتطوّر، وتمخّض عن ولادة الأسرة التي حقّقت حضورًا دوليًّا من بينها، كما روى لنا الهاشمي باعتباره من مؤسسيها، وهذا ليس بجديد علينا نحن الذين كنا نتابع أخبار النشاط الثقافي في البحرين التي سبقت الكثير من دول المنطقة في غزارة تلك الأنشطة وتنوّعها، من الشعر، إلى المسرح، والفن التشكيلي، والفنون السردية، والتعليم بمراحله، وكانت تستقطب المثقفين والدارسين، والطلاب، وفي خضمّ ذلك النشاط، حملت على عاتقها رسالة الحداثة في منطقة الخليج، وقد قطعت الكثير من الأشواط قبل الطفرة النفطية التي جرت بمنطقة الخليج في السبعينات، ولا تشابهها بذلك إلّا الكويت، وما أسرة الأدباء والكتّاب في البحرين التي تعدّ من أقدم الجمعيات الأهلية، ومؤسسات المجتمع المدني في منطقة الخليج العربي، إلّا دليل على حضور صوت المثقف البحريني، لذا غمرنا شعور بهيبة المكان، وسرعان ما تداعت في رأسي أسماء شخصيات ثقافية بحرينية لها إسهامات فاعلة في البناء الثقافي الخليجي والعربي كمحمد جابر الأنصاري، وإبراهيم العريض، وأحمد المناعي، وعلوي الهاشمي، وعلي عبدالله خليفة، وقاسم حداد، وحمدة خميس، أمين صالح، وآخرين، وبعضهم سبق لنا اللقاء بهم في بغداد خلال ثمانينات القرن خلال مشاركتهم في مهرجان (المربد) والبعض الآخر جمعتنا به مناسبات في عواصم عربية، وقرأنا كتاباتهم ونصوصهم في المجلّات الثقافيّة العربية بشكل عام، ومجلة (كتابات) التي أهدانا الشاعر كريم رضي نسخا من أعدادها.
كلّ ذلك دليل على العمق الثقافي والحضاري لدولة مدّت جذورها في أرضية حضارية تستقي صلابتها من حضارة دلمون التي تعود إلى آلاف السنين، وقد وصفت في ملحمة جلجامش بـ«الأرض الطاهرة المقدسة» و«أرض الخلود» التي كان يبحث عنها جلجامش في رحلته، فكانت، بالنسبة له، أرض الأحلام وقد وصفت بأنها تخلو من الأمراض، والأحزان، وعلى الدوام مغمورة بالنور، ولا تعرف الموت، ولا تصيح الغربان فيها، وما إلى ذلك من أوصاف وردت في الألواح الطينية المكتوبة بالخطّ المسماري، ولا تزال تلك الأوصاف محطّ جدل بين علماء الآثار، وبعيدًا عن السرد الملحمي، والنسيج الأسطوري، أكّدت المواقع الأثرية وجود مستوطنات حضارة دلمون يعود تاريخها إلى خمسة آلاف عام، وقد أدرجت منظّمة اليونسكو (مدافن دلمون) على لائحة التراث العالمي، وكان لا بدّ لنا من زيارتها، والتجوال بين معالمها الحضارية، وقد أوضحت الكتابات القديمة الصلات الحضارية والعلاقات التجارية التي تربط أرض دلمون بحضارة أرض مجان، فلم تكن تلك الحضارة معزولة عن المناطق المجاورة، واستمر التواصل بين سكان عمان والبحرين، الذين تنقلوا بينهما، وتعزّز ذلك التواصل عندما أضاءت أنوار الإسلام المنطقة، واعتبر الخليفة عمر بن الخطّاب (رضي الله عنه) البحرين وعُمان مصرًا واحدًا، عند تقسيم البلاد الإسلامية إلى أمصار، واستمر هذا التواصل والإخاء ليشمل منطقة الخليج، فحين وقف الشاعر غازي القصيبي عام 1986 م على جسر الملك فهد الذي يربط البحرين بالمملكة رأى أن دول الخليج كلها مجتمعة:
درب من العشق لا درب من الحجر
هذا الذي طار بالواحات للجزر
واستيقظت نخلة وسنى توشوشني
مَنْ طوّق النخل بالأصداف والدرر؟
نسيت أين أنا إنّ (الرياض) هنا
مع (المنامة) مشغولان بالسمر
أم أنها (مسقط) السمراء زائرتي
أم أنها (الدوحة) الخضراء في قطر؟
خليج إن حبال الله تربطنا
فهل يقربنا خيط من البشر؟
وتبقى دروب دلمون معبّدة بكلمات العشق التي تعزّز أواصر المحبة والأخوّة المنقوشة على القلوب.