عندما كنت في المرحلة الإعدادية، دخل علينا، ذات يوم، معلم مادة التاريخ مبتهجا، وقبل أن يبدأ الدرس، قال: اليوم قمت من النوم صباحا، وطلبت من زوجتي، السماح لي بأن أعدّ وجبة الإفطار، وغسل الصحون، وحين استغربتْ طلبي، قلت لها: اليوم عيد المرأة، وأريد أن أحتفي بك هذا اليوم، ولك أن تحتفي بي بقية أيام السنة»، وكان ذلك مدخلا للحديث عن دور المرأة في المجتمع، ومكانتها الرفيعة التي عبّر عنها د. طه حسين بقوله لزوجته الفرنسية سوزان بريسو «بدونك أشعر أني ضرير حقا، أما وأنا معك فإني أتوصل للشعور بكل الأشياء وكأنني أراها»، مشيرا إلى المنزلة التي تحتلّها المرأة في حياة الرجل، كفرد من أفراد المجتمع، فهي ملاذه الآمن الذي يلجأ إليه في خضمّ صراعات الحياة، وهي الأنثى، «نصف كتاب الحياة» على حد تعبير الشاعر سليمان العيسى، و«كل مكان لا يؤنث لا يعوّل عليه» كما يقول محي الدين بن عربي، فهي المكان الذي يمنح الوجود بهاء وهي البستان، والبيت، الذي يقف على أكتافها، يقول المثل المكسيكي « البيت لا يستند على الأرض، بل على المرأة».
وفي غمرة احتفالاتنا بيوم المرأة العُمانية الذي يوافق السابع عشر من أكتوبر من كلّ عام، لا يملك الشعراء إزاء مثل هذه المناسبات سوى الكلمات التي تذكّر بعطاءات من جعلت من حياتها «سلسلة من المشاعر والحب والتضحية» حسب تعبير بلزاك، وهنا لابدّ لي أن استحضر التحية التي وجّهها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قبل أكثر من ستين سنة للمرأة في عيدها العالمي الذي يوافق الثامن من مارس من كل عام:
حيَّيتهُنّ بعيدِهنّ
من بيضهنَّ وسُودِهنّ
وحمِدتُ شعريَ أن يروحَ
قلائداً لعُقودهنّ
نَغَمُ القصيدِ قبسته
من نغمةٍ لوليدهِنّ
كم بسمةٍ ليَ لم تكن
لولا افترارُ نَضيدهنّ
وهكذا تدفّقت المعاني السامية، والدلالات، والأفكار التنويرية، وقد زاد من ذلك اختيار نون النسوة لتكون حرف الروي، أبرز حروف القافية للقصيدة المكتوبة على مجزوء الكامل، الذي ينساب مع تدفق شلال الموسيقى الشعرية، خصوصا أن النون أكثر شيوعا في القوافي، ففيها تطريب، حتى أن الأخفش يسمّيها (قافية الترنّم)، ومفرداتها كثيرة، ولا ننسى نونيات ابن زيدون، والجواهري نفسه تغنى بالنون في قصائد أخرى من بينها (أزف الموعد) التي خاطب فيها الشباب عام 1959 م:
أزف الموعد والوعد يعنّ والغد الحلو لأهليه يحن
والغد الحلو بنوه أنتم فإذا كان له صلب فنحن
يا شباب الغد إنا فتية مثلكم فرقنا في العمر سنّ
لم يزل في جانحينا خافق لصروف الدهر ثبت مطمئنّ
وفي النون أبعاد صوتية كثيفة، فالبعض يقرأ قصيدة جرير:
اقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
بوضع النون بدلا من الألف (عتابن) (أصابن) فالتنوين هنا للترنم، كما درسنا في كتاب شرح ابن عقيل.
وكانت أول قراءة لقصيدة الجواهري، في مهرجان أقامته رابطة المرأة العراقية بالعاصمة التشيكية براغ عام 1962م، وفيها عبّر عن موقفه من قضايا المرأة ونصرته لها، وهو موقف معروف عنه منذ عشرينات القرن الماضي، فقد كان مدافعا شرسا عن حقوق المرأة في العمل، والحياة، في مرحلة كانت المطالبة بهذه الحقوق معيارا فاصلا بين الفكر التقدّمي، والرجعي، وقد شغلت أذهان السياسيين والمفكّرين والمثقفين، مثلما الحال مع قضية الوقوف بوجه التمييز العنصري، فمثّلت دعوة مبكرة للمساواة بين البشر، بغضّ النظر عن الانتماءات العرقية، واللون، والجنس، ففي هذه القصيدة أشار إلى وحدة الموقف، مؤكّدا على دور المرأة في بناء المجتمعات الإنسانية:
ويتيمةٍ ليَ صغتها من دمعةٍ بخدودهنّ
إنا وكلُّ جهودنا للخير رهنُ جُهودِهنّ
وحدودُ طاقات الرجالِ لصيقةٌ بحدودهنّ
وصمودُنا في النائباتِ مَرَدُّه لصمودهنّ
بنُحوسِهنَّ نحوسُنا وسعودُنا بسعودهنّ
فحدّد نظرته للمرأة: أما، وزوجة، وشقيقة ومساهمة فاعلة في بناء المجتمع ورفيقة في طريق الحياة والدراسة والعمل، وكملهمة، كما وصف في قصيدته «رسالة مملحة» التي كتبها عام 1969:
إنّي ورب صاغهن كما اشتهى هيفا لطافا
وأدقهن وما ونى، وأجلهنَّ وما أحافا
لأرى الجنان إذا خلت منهن أولى أن تعافى
وظلّ موقف الجواهري ثابتا، مناصرا، مؤمنا بها وقدراتها، وظلت المرأة مصدر إلهام له، وقد قال وهو في السبعين من عمره:
لجاجك في الحب لا يجمل
وأنت ابن سبعين هل تعقل؟
وتبقى نون النسوة المجرة التي تدور في مدارها الأفلاك، وإذا قيل إنها «سرّة الكون»، فهي نبض الوجود، وسرّه الغامض الجميل.
وفي غمرة احتفالاتنا بيوم المرأة العُمانية الذي يوافق السابع عشر من أكتوبر من كلّ عام، لا يملك الشعراء إزاء مثل هذه المناسبات سوى الكلمات التي تذكّر بعطاءات من جعلت من حياتها «سلسلة من المشاعر والحب والتضحية» حسب تعبير بلزاك، وهنا لابدّ لي أن استحضر التحية التي وجّهها الشاعر الكبير محمد مهدي الجواهري قبل أكثر من ستين سنة للمرأة في عيدها العالمي الذي يوافق الثامن من مارس من كل عام:
حيَّيتهُنّ بعيدِهنّ
من بيضهنَّ وسُودِهنّ
وحمِدتُ شعريَ أن يروحَ
قلائداً لعُقودهنّ
نَغَمُ القصيدِ قبسته
من نغمةٍ لوليدهِنّ
كم بسمةٍ ليَ لم تكن
لولا افترارُ نَضيدهنّ
وهكذا تدفّقت المعاني السامية، والدلالات، والأفكار التنويرية، وقد زاد من ذلك اختيار نون النسوة لتكون حرف الروي، أبرز حروف القافية للقصيدة المكتوبة على مجزوء الكامل، الذي ينساب مع تدفق شلال الموسيقى الشعرية، خصوصا أن النون أكثر شيوعا في القوافي، ففيها تطريب، حتى أن الأخفش يسمّيها (قافية الترنّم)، ومفرداتها كثيرة، ولا ننسى نونيات ابن زيدون، والجواهري نفسه تغنى بالنون في قصائد أخرى من بينها (أزف الموعد) التي خاطب فيها الشباب عام 1959 م:
أزف الموعد والوعد يعنّ والغد الحلو لأهليه يحن
والغد الحلو بنوه أنتم فإذا كان له صلب فنحن
يا شباب الغد إنا فتية مثلكم فرقنا في العمر سنّ
لم يزل في جانحينا خافق لصروف الدهر ثبت مطمئنّ
وفي النون أبعاد صوتية كثيفة، فالبعض يقرأ قصيدة جرير:
اقلي اللوم عاذل والعتابا وقولي إن أصبت لقد أصابا
بوضع النون بدلا من الألف (عتابن) (أصابن) فالتنوين هنا للترنم، كما درسنا في كتاب شرح ابن عقيل.
وكانت أول قراءة لقصيدة الجواهري، في مهرجان أقامته رابطة المرأة العراقية بالعاصمة التشيكية براغ عام 1962م، وفيها عبّر عن موقفه من قضايا المرأة ونصرته لها، وهو موقف معروف عنه منذ عشرينات القرن الماضي، فقد كان مدافعا شرسا عن حقوق المرأة في العمل، والحياة، في مرحلة كانت المطالبة بهذه الحقوق معيارا فاصلا بين الفكر التقدّمي، والرجعي، وقد شغلت أذهان السياسيين والمفكّرين والمثقفين، مثلما الحال مع قضية الوقوف بوجه التمييز العنصري، فمثّلت دعوة مبكرة للمساواة بين البشر، بغضّ النظر عن الانتماءات العرقية، واللون، والجنس، ففي هذه القصيدة أشار إلى وحدة الموقف، مؤكّدا على دور المرأة في بناء المجتمعات الإنسانية:
ويتيمةٍ ليَ صغتها من دمعةٍ بخدودهنّ
إنا وكلُّ جهودنا للخير رهنُ جُهودِهنّ
وحدودُ طاقات الرجالِ لصيقةٌ بحدودهنّ
وصمودُنا في النائباتِ مَرَدُّه لصمودهنّ
بنُحوسِهنَّ نحوسُنا وسعودُنا بسعودهنّ
فحدّد نظرته للمرأة: أما، وزوجة، وشقيقة ومساهمة فاعلة في بناء المجتمع ورفيقة في طريق الحياة والدراسة والعمل، وكملهمة، كما وصف في قصيدته «رسالة مملحة» التي كتبها عام 1969:
إنّي ورب صاغهن كما اشتهى هيفا لطافا
وأدقهن وما ونى، وأجلهنَّ وما أحافا
لأرى الجنان إذا خلت منهن أولى أن تعافى
وظلّ موقف الجواهري ثابتا، مناصرا، مؤمنا بها وقدراتها، وظلت المرأة مصدر إلهام له، وقد قال وهو في السبعين من عمره:
لجاجك في الحب لا يجمل
وأنت ابن سبعين هل تعقل؟
وتبقى نون النسوة المجرة التي تدور في مدارها الأفلاك، وإذا قيل إنها «سرّة الكون»، فهي نبض الوجود، وسرّه الغامض الجميل.