«لم يكن ثمّة أبدا ما هو شرق صاف غير مشروط»، هي فكرة خلاصة انتهى إليها إدوارد سعيد في كتابه عن الاستشراق الذي شكّل نقلة نوعيّة في النظر إلى دراسات الغربيين للشرق، فقد كان الشرق دومًا في منظورهم محكومًا بإدراكين كيّفا طبيعة التعامل الثقافي معه؛ منظور أدبي ناتج عن تمثّل الغرب لكتاب ألف ليلة وليلة وعوالمه المبهجة لذّة ومتعة، إذ أخرجوه من الممكن الأدبيّ التخييلي إلى المُدرَك الواقعيّ العينيّ، فتشكّل بذلك مُدرَكٌ غربيّ يقينيّ يضع العرب في خانة الراقصة بلباسها الشرقيّ التي تهب متعة الجسد لطالبها، ومنظور حضاريّ أنثروبولوجي قائم على أنّ الشرق أمّة متخلّفة تحتاج ترقية (وهي العقيدة المؤسّسة للاستعمار). ولأجل ذلك لم يكن لدى أغلب دارسي الحضارة العربيّة الإسلاميّة من الغربيين منظور موضوعيّ يخلو من التصوّرات القبليّة، وقد ظهر ذلك بشكل جلي عند أغلب المستشرقين، ويتوضّح هذا التوجّه في رحلة كاتب فرنسيّ له أثر عميق في تاريخ الأدب، وهو غي دو موباسان.
لقد دوّن غي دو موباسان رحلته إلى الجزائر سنة 1881، وكانت الجزائر في ذلك الوقت تحت الاستعمار الفرنسي، فكيف سيكون تصوير أديب ذي منزلة ووعي وإيمان بحقّ الفرد في الحريّة والحياة لدولة عربيّة إسلاميّة يُعاني أهلها من أسوأ نظام استعمار في تاريخ البشريّة؟
في كتابه المعنون بـ«رحلة إلى الجزائر؛ إلى بلاد الشمس»، ينحو موباسان منحى امتلاك النظرة الفوقيّة، ويسرد رحلته من علوّ المستعمر. رحلة انشدّت إلى عناصر ثلاثة هي: وصف الرحلة من مناظر وخاصّة الصحراء وشدّة الحرّ، وصف الأشخاص من شيوخ القبائل ووجهاء ونساء وأشخاص عاديين التقاهم، وصف العادات والاعتقادات والثقافات، وهو في كلّ هذه المجالات يُحدث فاصلًا عنصريًّا بين نوعين من الخلْق، الأوروبيّ النظيف الذي يعرف كيف يعيش والعربي الوسخ الذي يقترب من الحيوان، ولذلك يتعجّب من قدرة العرب على الاكتفاء باليسير من الأكل، والقليل من اللباس، والبسيط من الأثاث. ثلاثةُ مسائل في رحلته أبانت وعيه وإدراكه وانخراطه في ثقافة العوامّ لا الخواصّ، الأولى نُكرانه لحركة التحرّر وهجومه الشرس على شخصيّة عَدّها أقرب إلى الأسطوريّة في مقاومتها للفرنسيين، وهي شخصيّة بو عمامة التي شكّلت مقاومةً شرسة عجز الاستعمار الفرنسي عن إيقافها، ومثّلت بداية المقاومة الصوفيّة المسلّحة للفرنسيين، فلم يُكلّف سارد الرحلة نفسه عناء معرفة هذه الشخصيّة ومعرفة منزلتها وقدرتها وإنّما اكتفى بإطلاق جملة من النعوت مثل قوله: «قاد بوعمامة الغريب الأطوار تلك الحملة العجيبة التي دوّنت واقترفت كثيرًا من الحماقات»، وفعلا فإنّ شخصيّة بوعمامة غريبة الأطوار وعجيبة، إذ إنّ القُوّات الفرنسيّة قد تجيّشت له ولم تتمكّن منه وعجزت عن إدراكه، في حين كان هو يوجعها بضربات قاتلة، وعوض أن ينصرف الروائيّ الإنسان إلى تتبّع هذه العجائبيّة ومأتاها، اكتفى بصدّها عن ذهنه وتصنيفها أنّها شخصيّة مارقة قاتلة، لها القدرة على حسن التحرّك في ميدانها، والغريب في الأمر أن موباسان كان واعيا تماما بهذه العجائبيّة، يقول: «سيكون في غاية الذكاء من يخبرنا في يومنا هذا، من هو بو عمامة، ذاك المهرّج الشبح الذي أفزع جيشنا في إفريقيا، ثمّ اختفى تماما حتّى رحنا نشكّ في وجوده».
والثانية انصرافه إلى الاهتمام بالمعتقدات والعادات، الصيام الذي خصّص له قسما مهمّا من سرده، ولم يقدر على تمثّل هذه الفريضة، يقول: «يصوم الرجال والنساء والأولاد من سن الخامسة عشرة والبنات عند البلوغ، وكلّهم يبقون دون طعام أو شراب. قد يستطيع المرء الاستغناء عن الطعام طوال النهار، لكن الامتناع عن الشراب في هذا القيظ الشديد أمرٌ فظيع»، كما تعرّض إلى الصلاة والعبادة، وهي مظاهر جاذبة لعين المرتحل بسببٍ من أنّها معتقدات مختلفة عمّا عايشه من معتقدات، كذلك الأمر بالنسبة إلى العادات وخاصّة في إكرام الضيف والاهتمام به. والجدير بالملاحظة في منظور السارد أنّه في عدد من المواقع لا يحترم هذه المعتقدات، ومن ذلك على سبيل المثال أنّه يُعلّق تعليقا سلبيا على ما يتعاود على لسان المسلم في كلّ نائبة تحلّ به أنّ ذلك بمشيئة اللّه.
أمّا الثالثة، فهي دارجة في أغلب كتب الغربيين الزائرين للمنطقة العربيّة، وتتمثّل في التركيز على المرأة، من حيث هي مصدر شبق ومتعة فحسب، وقد توسّع السارد في هذا الأمر.
عموما، تظلّ رؤية الغرب للشرق محكومة برؤية مسبقة تحدّد مسار السرد، ظواهر جالبة للرؤية مثل طرق التعبّد والمرأة، بينما يعرضون عن التوسّع في مظاهر حضاريّة وتاريخية وإنسانية لها منزلة مهمّة في تشكيل شخصيّة العربيّ وتكوين الحضارة العربيّة الإسلاميّة.
لقد دوّن غي دو موباسان رحلته إلى الجزائر سنة 1881، وكانت الجزائر في ذلك الوقت تحت الاستعمار الفرنسي، فكيف سيكون تصوير أديب ذي منزلة ووعي وإيمان بحقّ الفرد في الحريّة والحياة لدولة عربيّة إسلاميّة يُعاني أهلها من أسوأ نظام استعمار في تاريخ البشريّة؟
في كتابه المعنون بـ«رحلة إلى الجزائر؛ إلى بلاد الشمس»، ينحو موباسان منحى امتلاك النظرة الفوقيّة، ويسرد رحلته من علوّ المستعمر. رحلة انشدّت إلى عناصر ثلاثة هي: وصف الرحلة من مناظر وخاصّة الصحراء وشدّة الحرّ، وصف الأشخاص من شيوخ القبائل ووجهاء ونساء وأشخاص عاديين التقاهم، وصف العادات والاعتقادات والثقافات، وهو في كلّ هذه المجالات يُحدث فاصلًا عنصريًّا بين نوعين من الخلْق، الأوروبيّ النظيف الذي يعرف كيف يعيش والعربي الوسخ الذي يقترب من الحيوان، ولذلك يتعجّب من قدرة العرب على الاكتفاء باليسير من الأكل، والقليل من اللباس، والبسيط من الأثاث. ثلاثةُ مسائل في رحلته أبانت وعيه وإدراكه وانخراطه في ثقافة العوامّ لا الخواصّ، الأولى نُكرانه لحركة التحرّر وهجومه الشرس على شخصيّة عَدّها أقرب إلى الأسطوريّة في مقاومتها للفرنسيين، وهي شخصيّة بو عمامة التي شكّلت مقاومةً شرسة عجز الاستعمار الفرنسي عن إيقافها، ومثّلت بداية المقاومة الصوفيّة المسلّحة للفرنسيين، فلم يُكلّف سارد الرحلة نفسه عناء معرفة هذه الشخصيّة ومعرفة منزلتها وقدرتها وإنّما اكتفى بإطلاق جملة من النعوت مثل قوله: «قاد بوعمامة الغريب الأطوار تلك الحملة العجيبة التي دوّنت واقترفت كثيرًا من الحماقات»، وفعلا فإنّ شخصيّة بوعمامة غريبة الأطوار وعجيبة، إذ إنّ القُوّات الفرنسيّة قد تجيّشت له ولم تتمكّن منه وعجزت عن إدراكه، في حين كان هو يوجعها بضربات قاتلة، وعوض أن ينصرف الروائيّ الإنسان إلى تتبّع هذه العجائبيّة ومأتاها، اكتفى بصدّها عن ذهنه وتصنيفها أنّها شخصيّة مارقة قاتلة، لها القدرة على حسن التحرّك في ميدانها، والغريب في الأمر أن موباسان كان واعيا تماما بهذه العجائبيّة، يقول: «سيكون في غاية الذكاء من يخبرنا في يومنا هذا، من هو بو عمامة، ذاك المهرّج الشبح الذي أفزع جيشنا في إفريقيا، ثمّ اختفى تماما حتّى رحنا نشكّ في وجوده».
والثانية انصرافه إلى الاهتمام بالمعتقدات والعادات، الصيام الذي خصّص له قسما مهمّا من سرده، ولم يقدر على تمثّل هذه الفريضة، يقول: «يصوم الرجال والنساء والأولاد من سن الخامسة عشرة والبنات عند البلوغ، وكلّهم يبقون دون طعام أو شراب. قد يستطيع المرء الاستغناء عن الطعام طوال النهار، لكن الامتناع عن الشراب في هذا القيظ الشديد أمرٌ فظيع»، كما تعرّض إلى الصلاة والعبادة، وهي مظاهر جاذبة لعين المرتحل بسببٍ من أنّها معتقدات مختلفة عمّا عايشه من معتقدات، كذلك الأمر بالنسبة إلى العادات وخاصّة في إكرام الضيف والاهتمام به. والجدير بالملاحظة في منظور السارد أنّه في عدد من المواقع لا يحترم هذه المعتقدات، ومن ذلك على سبيل المثال أنّه يُعلّق تعليقا سلبيا على ما يتعاود على لسان المسلم في كلّ نائبة تحلّ به أنّ ذلك بمشيئة اللّه.
أمّا الثالثة، فهي دارجة في أغلب كتب الغربيين الزائرين للمنطقة العربيّة، وتتمثّل في التركيز على المرأة، من حيث هي مصدر شبق ومتعة فحسب، وقد توسّع السارد في هذا الأمر.
عموما، تظلّ رؤية الغرب للشرق محكومة برؤية مسبقة تحدّد مسار السرد، ظواهر جالبة للرؤية مثل طرق التعبّد والمرأة، بينما يعرضون عن التوسّع في مظاهر حضاريّة وتاريخية وإنسانية لها منزلة مهمّة في تشكيل شخصيّة العربيّ وتكوين الحضارة العربيّة الإسلاميّة.