تطوي رئيسة وزراء المملكة المتحدة الجديدة ليز تـرس الآن صفحة الشعبوية المدمرة للذات، وفي الوقت ذاته، تواصل الولايات المتحدة الانغماس فيها إذا تمكنت تـرس من الإبحار أثناء ولايتها كرئيسة للوزراء عبر الأمواج المتلاطمة الحالية إلى بحار أكثر هدوءا، فربما تنتهي بها الحال إلى تقديم نموذج قد يتبعه المحافظون الأمريكيون.
تبدأ القصة مع الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، التي تسببت في إحداث ركود شديد في أسواق العمل في الولايات المتحدة، حتى أن الأجور المعدلة حسب التضخم التي يتقاضاها النصف الأدنى من العمال انخفضت لعدة سنوات متتالية، ولم تتعافَ الأجور المتوسطة الحقيقية إلى المستوى الذي كانت عليه في عام 2007 إلا بحلول عام 2015، ولم تتعافَ الأجور الحقيقية التي يتقاضاها أقل 20% من العمال حتى عام 2017. وكما يحدث عادة، أدت هذه التداعيات الاقتصادية التي خلفتها الأزمة إلى صعود الشعبوية بقوة في الولايات المتحدة. على اليسار، شَـنّ الاشتراكيون الديمقراطيون مثل السناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت حربًا على الأثرياء، معلنين أنه «لا يجب أن يكون هناك أصحاب مليارات». وعلى اليمين، خاض دونالد ترامب سباق الرئاسة باعتباره زعيما شعبويا قوميا، وفاز بهزيمة المرشحة التي كان ارتباطها بـ«المؤسسة» وثيقا. شهدت المملكة المتحدة أيضا سلسلة من الأحداث الشعبوية خلال هذه الفترة. كان الدافع الرئيسي وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي -القرار الذي اتخذ بعد استفتاء على البقاء أو الخروج في يونيو من عام 2016- حماية الأسرة البريطانية النمطية من التأثيرات السيئة المزعومة التي صاحبت العولمة والهجرة. على الرغم من الحملة الحماسية التي شنتها تـرَس ضد الخروج البريطاني في عام 2016، فقد أيدت نتيجة الاستفتاء، وسرعان ما قبلت قرار الناخبين. ولكن على الرغم من موقف تـرَس المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، فإنها تدفع بالسياسة البريطانية بعيدا عن الشعبوية في نواح مهمة عديدة، فتقدم للساسة في الولايات المتحدة -وخاصة أولئك على اليمين- نموذجًا ينبغي لهم أن يتبعوه. كما قالت رئيسة الوزراء في مؤتمر حزب المحافظين في أوائل أكتوبر: لدي ثلاث أولويات تتعلق باقتصادنا: النمو، والنمو، والنمو. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع السناتور الجمهوري جوش هاولي من ولاية ميسوري، الذي يقدم رثاء شعبويا موجها إلى الطبقة العاملة. يقول هاولي: إن «النمو مهم» بكل تأكيد. ولكن في الولايات المتحدة «لم نعد نصنع الأشياء هنا -على الأقل ليس الأشياء التي يستطيع أي شخص طبيعي لا يحمل شهادة دكتوراة أن يبنيها بيديه». ووفقًا لهاولي، «في المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن نوفر العمل المجزي للشعب الأمريكي».
تكمن المشكلة بالطبع في أن النمو البطيء يولد نوعًا من الصراعات المرتبطة بالتوزيع التي تنمو عليها الشعبوية وتترعرع. ليس من المستغرب أن يميل الشعبويون الأمريكيون، الذين يستغلون مثل هذه الصراعات، إلى إعطاء الأولوية للأهداف الثقافية وسياسات الهوية قبل النمو.
تتمثل واحدة من أكثر سمات الشعبوية تخريبًا في أنها تعامل الناس باعتبارهم ضحايا لا حول لهم ولا قوة. في خطاب قبول ترشيح الحزب الجمهوري له لمنصب الرئيس في عام 2016، أعلن ترامب أنه دخل عالم السياسة «حتى لا يتمكن الأقوياء من الاستمرار في قهر الناس العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم». وفي الخطاب ذاته، لاطف الاستبداد قائلًا: «أنا وحدي قادر على إصلاح هذا». على نحو مماثل، على اليسار السياسي، دأبت السيناتور الديمقراطية إليزابيث وارِن على الزعم أن «اللعبة برمتها مزورة» ضد الأمريكيين العاديين. إذا كنت تشعر أنك تفتقر إلى القوة وأنك ضحية نظام مزور، فسوف تستنتج أنك لست مسؤولًا عن ظروفك الاقتصادية. وقد تسعى إلى الملجأ في التظلم والشكوى. في الخطاب الذي ألقته في مؤتمر حزب المحافظين، بثت تـرَس رسالة مختلفة تماما، قائلة للبريطانيين: إنهم إذا تحمّلوا المسؤولية وطمحوا إلى الأفضل، فإنهم بذلك يصبحون قادرين على تحسين ظروفهم الاقتصادية. وأطلقت وصف «الأبطال» على أولئك الذين «يتحمّلون المسؤولية ويطمحون إلى حياة أفضل لأنفسهم وأسرهم». وأعلنت نفسها على أنها «مؤيدة للطموح والمغامرة التجارية». من أبشع جوانب الشعبوية اليمينية ميلها إلى شيطنة المهاجرين، عندما أطلق حملته الانتخابية في عام 2016، ادّعـى ترامب في مناسبة شهيرة أن المهاجرين المكسيكيين «يجلبون المخدرات والجريمة وأنهم مغتصبون». في المقابل، كانت أولى معارك تـرَس في مجلس الوزراء حول خطتها لتحرير الهجرة، التي تواجه مقاومة من الوزراء الذين ناصروا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إنها تريد السماح لمزيد من عمال ومهندسي الزراعة بدخول المملكة المتحدة، وهي تفكر في تخفيف متطلبات اللغة الإنجليزية المفروضة على العمال الأجانب. في الولايات المتحدة، قادت الشعبوية اليمين السياسي إلى إدارة ظهره ليس فقط للهجرة بل وأيضا التجارة. قبل أن تتولى منصب رئيس الوزراء، برزت تـرَس كوزيرة للتجارة في المملكة المتحدة، عندما حاولت جاهدة صياغة اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة بعد الخروج البريطاني. ولكن مع وجود ترامب في البيت الأبيض، اصطدمت بجدار من طوب. يتعين على القادة السياسيين في الولايات المتحدة أن يسترشدوا بدليل رئيسة الوزراء. إن «اقتصاد الشكاية» يُـعَـد فشلا ساطع البرهان. فقد تسببت الحرب التجارية التي شنها ترامب في تقليص الأيدي العاملة الصناعية -أي أنها أدت إلى عكس التأثير المقصود منها تماما. وتزيد السياسات الرامية إلى الحد من الهجرة من صعوبة تخفيف نقص العمال، وتعزيز الإنتاجية طويلة الأجل في الولايات المتحدة. إن الاقتصاد ليس «مزورا» ضد مصلحة العمال العاديين، ذلك أن الصِـلة بين الأجر والإنتاجية قوية. والناس أقوياء، ويجب أن تكون طموحاتهم وتطلعاتهم قوية؛ لأن أمريكا ليست مجتمعا طبقيا دون حراك صاعد. والحلم الأمريكي لم يمت. بطبيعة الحال، من السابق للأوان إعلان نجاح رئاسة تـرَس للوزراء، فقد تولت منصبها منذ ستة أسابيع فقط، ومن الواضح أن أجندتها الاقتصادية واجهت بداية عصيبة. والآن، أقالت وزير الخزانة كواسي كوارتنج، في محاولة لاستعادة ثقة الأسواق المالية. وهي تستعد لمراجعة وتنقيح أجندتها الاقتصادية، ولا يزال العمل المطلوب منها كثيرا؛ لإقناع البرلمان والشعب البريطاني أن النهج الذي تتبنّاه حكومتها في إدارة السياسة الاقتصادية سليم، سواء من الناحية التجريبية أو الأخلاقية. لإحراز النجاح، يتعين عليها أن تعكف على تصحيح سياساتها وتنفيذها بكفاءة، لكن الرسائل مهمة، وبالنظر إلى الاضطرابات الحالية، تقول تـرَس الكلام المناسب. الواقع أن البريطانيين لا يحتاجون إلى المزيد من الحروب الثقافية، بل يحتاجون إلى النمو، والديناميكية، والفرصة، والانفتاح، والثقة، وشعور متجدد بالقوة والمسؤولية الشخصية. هذا هو ما يحتاج إليه الأمريكيون أيضًا، وينبغي للمحافظين أن يحيطوا بهذا عِـلما.
مايكل آر سترين مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز، ومؤلف كتاب الحلم الأمريكي لم يمت: (لكن الشعبوية يمكن أن تقتله).
خدمة بروجيكت سنديكيت
تبدأ القصة مع الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008، التي تسببت في إحداث ركود شديد في أسواق العمل في الولايات المتحدة، حتى أن الأجور المعدلة حسب التضخم التي يتقاضاها النصف الأدنى من العمال انخفضت لعدة سنوات متتالية، ولم تتعافَ الأجور المتوسطة الحقيقية إلى المستوى الذي كانت عليه في عام 2007 إلا بحلول عام 2015، ولم تتعافَ الأجور الحقيقية التي يتقاضاها أقل 20% من العمال حتى عام 2017. وكما يحدث عادة، أدت هذه التداعيات الاقتصادية التي خلفتها الأزمة إلى صعود الشعبوية بقوة في الولايات المتحدة. على اليسار، شَـنّ الاشتراكيون الديمقراطيون مثل السناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت حربًا على الأثرياء، معلنين أنه «لا يجب أن يكون هناك أصحاب مليارات». وعلى اليمين، خاض دونالد ترامب سباق الرئاسة باعتباره زعيما شعبويا قوميا، وفاز بهزيمة المرشحة التي كان ارتباطها بـ«المؤسسة» وثيقا. شهدت المملكة المتحدة أيضا سلسلة من الأحداث الشعبوية خلال هذه الفترة. كان الدافع الرئيسي وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي -القرار الذي اتخذ بعد استفتاء على البقاء أو الخروج في يونيو من عام 2016- حماية الأسرة البريطانية النمطية من التأثيرات السيئة المزعومة التي صاحبت العولمة والهجرة. على الرغم من الحملة الحماسية التي شنتها تـرَس ضد الخروج البريطاني في عام 2016، فقد أيدت نتيجة الاستفتاء، وسرعان ما قبلت قرار الناخبين. ولكن على الرغم من موقف تـرَس المؤيد لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي، فإنها تدفع بالسياسة البريطانية بعيدا عن الشعبوية في نواح مهمة عديدة، فتقدم للساسة في الولايات المتحدة -وخاصة أولئك على اليمين- نموذجًا ينبغي لهم أن يتبعوه. كما قالت رئيسة الوزراء في مؤتمر حزب المحافظين في أوائل أكتوبر: لدي ثلاث أولويات تتعلق باقتصادنا: النمو، والنمو، والنمو. وهذا يتناقض بشكل صارخ مع السناتور الجمهوري جوش هاولي من ولاية ميسوري، الذي يقدم رثاء شعبويا موجها إلى الطبقة العاملة. يقول هاولي: إن «النمو مهم» بكل تأكيد. ولكن في الولايات المتحدة «لم نعد نصنع الأشياء هنا -على الأقل ليس الأشياء التي يستطيع أي شخص طبيعي لا يحمل شهادة دكتوراة أن يبنيها بيديه». ووفقًا لهاولي، «في المقام الأول من الأهمية، يتعين علينا أن نوفر العمل المجزي للشعب الأمريكي».
تكمن المشكلة بالطبع في أن النمو البطيء يولد نوعًا من الصراعات المرتبطة بالتوزيع التي تنمو عليها الشعبوية وتترعرع. ليس من المستغرب أن يميل الشعبويون الأمريكيون، الذين يستغلون مثل هذه الصراعات، إلى إعطاء الأولوية للأهداف الثقافية وسياسات الهوية قبل النمو.
تتمثل واحدة من أكثر سمات الشعبوية تخريبًا في أنها تعامل الناس باعتبارهم ضحايا لا حول لهم ولا قوة. في خطاب قبول ترشيح الحزب الجمهوري له لمنصب الرئيس في عام 2016، أعلن ترامب أنه دخل عالم السياسة «حتى لا يتمكن الأقوياء من الاستمرار في قهر الناس العاجزين عن الدفاع عن أنفسهم». وفي الخطاب ذاته، لاطف الاستبداد قائلًا: «أنا وحدي قادر على إصلاح هذا». على نحو مماثل، على اليسار السياسي، دأبت السيناتور الديمقراطية إليزابيث وارِن على الزعم أن «اللعبة برمتها مزورة» ضد الأمريكيين العاديين. إذا كنت تشعر أنك تفتقر إلى القوة وأنك ضحية نظام مزور، فسوف تستنتج أنك لست مسؤولًا عن ظروفك الاقتصادية. وقد تسعى إلى الملجأ في التظلم والشكوى. في الخطاب الذي ألقته في مؤتمر حزب المحافظين، بثت تـرَس رسالة مختلفة تماما، قائلة للبريطانيين: إنهم إذا تحمّلوا المسؤولية وطمحوا إلى الأفضل، فإنهم بذلك يصبحون قادرين على تحسين ظروفهم الاقتصادية. وأطلقت وصف «الأبطال» على أولئك الذين «يتحمّلون المسؤولية ويطمحون إلى حياة أفضل لأنفسهم وأسرهم». وأعلنت نفسها على أنها «مؤيدة للطموح والمغامرة التجارية». من أبشع جوانب الشعبوية اليمينية ميلها إلى شيطنة المهاجرين، عندما أطلق حملته الانتخابية في عام 2016، ادّعـى ترامب في مناسبة شهيرة أن المهاجرين المكسيكيين «يجلبون المخدرات والجريمة وأنهم مغتصبون». في المقابل، كانت أولى معارك تـرَس في مجلس الوزراء حول خطتها لتحرير الهجرة، التي تواجه مقاومة من الوزراء الذين ناصروا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. إنها تريد السماح لمزيد من عمال ومهندسي الزراعة بدخول المملكة المتحدة، وهي تفكر في تخفيف متطلبات اللغة الإنجليزية المفروضة على العمال الأجانب. في الولايات المتحدة، قادت الشعبوية اليمين السياسي إلى إدارة ظهره ليس فقط للهجرة بل وأيضا التجارة. قبل أن تتولى منصب رئيس الوزراء، برزت تـرَس كوزيرة للتجارة في المملكة المتحدة، عندما حاولت جاهدة صياغة اتفاقية تجارية مع الولايات المتحدة بعد الخروج البريطاني. ولكن مع وجود ترامب في البيت الأبيض، اصطدمت بجدار من طوب. يتعين على القادة السياسيين في الولايات المتحدة أن يسترشدوا بدليل رئيسة الوزراء. إن «اقتصاد الشكاية» يُـعَـد فشلا ساطع البرهان. فقد تسببت الحرب التجارية التي شنها ترامب في تقليص الأيدي العاملة الصناعية -أي أنها أدت إلى عكس التأثير المقصود منها تماما. وتزيد السياسات الرامية إلى الحد من الهجرة من صعوبة تخفيف نقص العمال، وتعزيز الإنتاجية طويلة الأجل في الولايات المتحدة. إن الاقتصاد ليس «مزورا» ضد مصلحة العمال العاديين، ذلك أن الصِـلة بين الأجر والإنتاجية قوية. والناس أقوياء، ويجب أن تكون طموحاتهم وتطلعاتهم قوية؛ لأن أمريكا ليست مجتمعا طبقيا دون حراك صاعد. والحلم الأمريكي لم يمت. بطبيعة الحال، من السابق للأوان إعلان نجاح رئاسة تـرَس للوزراء، فقد تولت منصبها منذ ستة أسابيع فقط، ومن الواضح أن أجندتها الاقتصادية واجهت بداية عصيبة. والآن، أقالت وزير الخزانة كواسي كوارتنج، في محاولة لاستعادة ثقة الأسواق المالية. وهي تستعد لمراجعة وتنقيح أجندتها الاقتصادية، ولا يزال العمل المطلوب منها كثيرا؛ لإقناع البرلمان والشعب البريطاني أن النهج الذي تتبنّاه حكومتها في إدارة السياسة الاقتصادية سليم، سواء من الناحية التجريبية أو الأخلاقية. لإحراز النجاح، يتعين عليها أن تعكف على تصحيح سياساتها وتنفيذها بكفاءة، لكن الرسائل مهمة، وبالنظر إلى الاضطرابات الحالية، تقول تـرَس الكلام المناسب. الواقع أن البريطانيين لا يحتاجون إلى المزيد من الحروب الثقافية، بل يحتاجون إلى النمو، والديناميكية، والفرصة، والانفتاح، والثقة، وشعور متجدد بالقوة والمسؤولية الشخصية. هذا هو ما يحتاج إليه الأمريكيون أيضًا، وينبغي للمحافظين أن يحيطوا بهذا عِـلما.
مايكل آر سترين مدير دراسات السياسة الاقتصادية في معهد أمريكان إنتربرايز، ومؤلف كتاب الحلم الأمريكي لم يمت: (لكن الشعبوية يمكن أن تقتله).
خدمة بروجيكت سنديكيت