البُنية العامة للبشر آبائية؛ فهي تتبع نظاما هرميا يقف على رأسه الأب، أو مَن يقوم مقامه، فلا يكاد يوجد مجتمع لا تحكمه هذه البُنية، ويبدو؛ أنها لا تقتصر على الإنسان، فهي أشبه بقانون عام يحكم الكائنات الحية، فهناك رأس لكل نظام كالنمل والنحل وأسراب الطيور وقطعان الحيوانات. بالنسبة للبشر.. لكل مجتمع نظامه الأبوي، فلكل دولة رئيسها، ولكل مؤسسة قائدها. ولا تقتصر الأبوية على أداء فروض الطاعة للرمز، والالتزام بأداء الوظيفة التراتبية داخل التجمّع، وإنما تتعدى ذلك إلى اعتبار رأس الجماعة رمزا إنسانيا، ومرجعا اجتماعيا، وقدوة أخلاقية. فمن المهم عند دراسة أي مجتمع أن نبحث أولا في رمزه الأعلى، فهو في كثير من الجوانب يمثّل «الملتقى القيمي» للجماعة، وقد يموت الرمز ويبقى تأثيره دهرا، بل قد تختلق الأمم لها رمزا تجعله مجمعا لما تأمله من صفات في قدوتها.

القدوة.. متمثلا في الرمز الديني أو الاجتماعي أو السياسي كان يوصف بصفات إلهية، فمن حقه على أتباعه التقديس والاتباع، وإليه تساق الأضاحي والقرابين، ولأجله تزهق النفوس، كما هو عند الحضارات القديمة. وفي العصر الحديث، ومع ظهور التلفزيون وما أعقبه من تقنيات التواصل الاجتماعي، أصبحت القدوات حاضرة في مختلف أوجه الحياة، فلم يعد القدوة مختصا بمجتمع دون آخر، كما كان بوذا للبوذيين والمسيح للمسيحيين، بل أصبح الرمز الرياضي قدوة لكل من يفتتن به من مختلف الشعوب، وهكذا قُل عن عوالم الفن والسياسة والفكر.

الآن.. نقف أمام ظاهرتين: الأولى.. أن أمر القدوة راسخ في الكيان الإنساني، ولا يكاد يمكن الإفلات من إساره. والثانية.. أنه حصل تشظٍ في القدوة المرجع، فبعد أن كان محصورا للمجتمع، أصبح الفرد ممزقا بين مراجع عديدة؛ بمقدار ما يملك القدوة من تقديم نفسه بأدوات الإبهار المعاصرة، بالإضافة إلى كون المراجع متغيّرة باستمرار. والبشرية.. حائرة ما بين ضرورة اتخاذ الأسوة، وتعدد القدوات التي ضررها أكثر من نفعها. ولو بقي الأمر في الإطار الفردي لهان الخطب، فمن حق الإنسان أن يسلك طريقه في الحياة، وأن يتخذ قدوة له من يحب، بيد أنه يتحول إلى تعصب مقيت، وكلما كان القدوة ألصق بالدين والمجتمع كان التعصب له أقوى وأنكى، وتحول الوضع إلى إقصاء واحتراب.

على المفكرين والفلاسفة والمنظّرين الأخلاقيين أن يدرسوا الوضع البشري، ويعملوا على إيجاد قدوات يتأسى بها الناس بالحُسنى، وأن يتجاوزوا ما تطرحه الليبرالية من الحرية الفردية الحادة، التي لا يمكن أن يبنى عليها اجتماع بشري، لو استمر حالها على هذا الوضع، ولن يكفي القانون لضبط تصرفات الناس، وهذا ما نراه في المجتمعات الليبرالية، فعندما يشعر الفرد بأن عين الأخ الأكبر غفلت عنه؛ لا يتورع عن انتهاك القانون، وأن يرتكب جرمه الذي قد يصل إلى القتل. وهذا لا يعني أن الأنظمة الأخرى أحسن حالا، فالأنظمة الشمولية والدينية هي الأخرى لها إخفاقاتها فيما يتعلق بالقدوة، وقد فتكت مخالبها بالمجتمعات، ورمت بها في أتون الصراعات.

المجتمع الإنساني.. في حاجة دائمة إلى أسوة حسنة، وهو الآن في أمس الحاجة إليها، فنحن في عصر متسارع التغيّر، فمن لم يتخذ له قدوة فقَدَ بوصلته في الحياة، لا سيما الأجيال الناشئة. وقد عالج القرآن قضية القدوة في جذرها:

- جذر التقديس، فالقرآن.. في إطار رسالته التوحيدية نزع القداسة عن القدوة، فالله وحده مَن يتصف بالألوهية، وعندما قص على نبيه قصص الأنبياء، وهم قدوة للناس، قال: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ)، وهذا مبدأ كلي عام في القرآن.

- جذر الأخلاق، فالأخلاق.. ركن أساس في الإسلام، والقدوة يجب أن يكون متحليا بالأخلاق، فالله عندما قدّم نبيه للناس وصفه بالخُلُق: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، والخُلُق هو قوام العمل، وقد جعل الله نجاة الإنسان في الإيمان به والعمل الصالح فقال: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ).

فمنظومة القدوة.. التي يقدمها القرآن لا ترتبط بكون الشخص مشهورا أو غنيا أو سياسيا أو عالما أو ذا جاه، وإنما تقوم على التحرر من العبودية لغير الله والتحلي بالخُلُق العظيم والعمل الصالح، ففي القرآن.. جاءت القدوة مرتبطة بالهدى، والأسوة مقيّدة بالحسنة، فلا قدوة خارج الهداية، ولا أسوة منزوعة الحُسن. فالقدوة.. لا يخشى إلا الله، ولا يرجو إلا إياه، ولا يبتغي إلا ما عنده، فهو مترفّع عن الدنيا ومغرياتها، لا يثأر لنفسه وقومه، وإنما يجاهد نفسه فيخلصها من أهوائها، ولا ينحاز إلا للحق والخير، ولا يكره إلا الظلم والفساد، يهمه بعد استقامة نفسه أن يستقيم الناس. هذا على مستوى منظومة القدوة، أما بالنسبة لتمثّلها الشخصي فقد جاء الطرح القرآني كالآتي:

- النبي إبراهيم.. هو القدوة الأولى للناس: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ)، لأنه أب الموحدين، أبوة.. تتعدى النسب الدموي إلى أساس الإيمان: (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْل)، ويأخذ إبراهيم موقعا مركزيا لدى الشرائع التوحيدية، ولذلك؛ جاء الاهتمام به في القرآن، فجعله الله إماما للناس: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا)، وسفّه مَن يرغب عن ملته: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَه).

- الأنبياء الكرام.. هم قدوة للعالمين، وقد وصّى الله نبيه الخاتم بأن يقتدي بهداهم، فقال: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ)، والأنبياء يتمتعون بالحكمة، فالقدوة لا بد أن يكون حكيما: (وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ)، والحكمة التي آتاها الله أنبياءه؛ أمر نبيه أن يلتزم بها في الدعوة إليه: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ).

- النبي محمد.. هو الأسوة الحسنة للعالمين، فقد وصفه الله بأنه ذو خلق عظيم، وأمر الناس أن يتخذوه أسوة حسنة: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ)، ومن أهم خصائص الاقتداء في النبي أنه رحمة للعالمين: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ).

هكذا يقدم القرآن منظومة الأسوة الحسنة للناس، فالنبي محمد.. رحمة للعالمين، وسار على هدي الأنبياء قبله، مستجمعا كمالاتهم الأخلاقية، مستوفيا صفاتهم الكريمة، فهو المرجع للناس. ولكن ألم يتخذ المسلمون من النبي قدوة لهم؟ نعم؛ هذا حاصل، إلا أن نتيجة الفتنة التي وقع فيها الصحابة بعد رحيله؛ تفرقت بالمسلمين الشعاب في تمثّل شخصيته العظيمة، فإذا رأيته في كتب الفرق والمذاهب؛ فكأنما هو ليس شخصا واحدا، بل متعددا بحسب معتقداتهم ومنازعهم، حتى وصل الأمر لديهم حد التناقض. وقد يقول قائل: إنما هذا تنوّع في أخذ كل فريق بطرف من شخصيته الفذة. وهذا ليس صحيحا، فلو صح؛ لما حصل بينهم التناحر والخصام، ولكان في هديه الكمال والوئام.

للرجوع إلى شخصية النبي الأسوة الحسنة؛ ينبغي للمسلمين أن يعتمدوا نهجا سليما للارتواء من مَعين سيرته، والقرآن.. هو المَعين الذي لم تعكره دلاء الأهواء، بشرط ألا يلجأ المسلمون إلى تعضية آياته بحسب معتقداتهم أو مقاصدهم الضيقة، وإنما عليهم الرجوع إلى محكم آياته التي تكتنز السجايا النبوية. وأقترح إنشاء مركز عالمي، يتداول فيه المفكرون شخصية النبي الكريم حسبما وردت في القرآن، ويعملون على نشر شذا سيرته القرآنية بين الناس كافة. وليكن اسمه مثلا «ملتقى الأسوة الحسنة» أو «مجمع الشمائل المحمدية».