إلحاقًا بمقالتي التي نشرت الأسبوع الفائت تحت عنوان "ضرورة المختبر الاجتماعي" والتي دعت إلى تتبع التغيرات في "مجتمع الرؤية" المنشود بحلول عام 2040 والذي تتصوره مجمل الأولويات والبرامج الوطنية والمستهدفات المحددة لها. نتوسع في هذه المساحة في التأكيد على ضرورة "رصد حركة المجتمع" ولا نتحدث هنا عن المفهوم النظري في علم الاجتماع المسمى "الحراك الاجتماعي" بقدر ما نوسع إطار المفهوم إلى حركة المجتمع بشكل أوسع. ولعلنا نوضح الفرق بين المفهومين إذ يُعرّف عالم الاجتماع بتريم سوركين "الحراك الاجتماعي" كونه عملية "انتقال الفرد أو الجماعة مِنْ طبقةٍ أو مستوى اجتماعي اقتصادي مُعَيَّن إلى طبقة أخرى أو مستوى اجتماعي اقتصادي آخر، بحيث يرتبط بهذا الانتقال تغيُّر في مستوى وظيفة ودخل الفَرْد، وقد يكون هذا الانتقال إلى أعلى أو إلى أسفل". وما نقصده على وجه الخصوص في رصد حركة المجتمع هو عملية رصد التغير في أنماط الاندماج في الهوية ومستوى حفاظ الفرد أو الجماعة الاجتماعية على انخراطها في منظومتي التماسك المجتمعي والتضامن الاجتماعي بالإضافة إلى التغير في المواقف تجاه قضايا "الهوية والثقافة والقيم" وانعكاسها على السلوكيات المجتمعية العامة ونوعية الدوافع والعوامل المحرك لتلك المواقف. ونضيف إليها تأثير الحراك الاجتماعي على خلق هوية جديدة سواء كان ذلك الحراك بفعل عوامل اقتصادية (الحصول على وظيفة / الترقي وظيفيًا/ الحصول على مصادر دخل جديدة ...) على مستوى الأفراد أو كان بفعل عوامل أسرية كالانتقال من أسرة ممتدة إلى أسرة نواة أو كان بفعل عوامل كجغرافية كالانتقال من إطار قروية إلى إطار مديني حضري. والهدف من كل ذلك الرصد في تقديرنا معرفة أولويات العمل المرحلية التي يمكن أن تساهم في إنجاز أولوية "الإنسان والمجتمع" التي أقرتها رؤية عُمان 2040.

قناعتنا أن المقدرة على الإمساك بزمام التغيير الاجتماعي "المُراد" مرتبطة بمدى معرفتنا الحقيقية والمعمقة عن المجتمع. وهذه المعرفة ليس مجرد التتبع الكمي لما يطرأ من تحولات قد تكون في غالبها طبيعية قياسًا بالحركة الطبيعية للمجتمع كأنماط نمو السكان وتحولات أسواق العمل والتشغيل وقضايا الإنجاب والتغير في الأوضاع الصحية وغيرها من المؤشرات المجتمعية التي يمكن قياسها ورصدها من واقع التأطير الإداري والبيانات المرتبطة به. وإنما نتحدث عن الذهاب معمقًا نحو تحليل متعدد المنهج " Multiple methodology" وتحليل متعدد الطبقات " multi-layered methodology" ونقصد به الانتقال من المعطى الكمي العام إلى المعطى النوعي والتحول من قياس الظاهرة ومؤشراتها إلى قياس التغير الدقيق في المواقف الاجتماعية المنتجة للظاهرة والمشكلة لها. وكيف تبدو حالة التعبير المجتمعي "غير المباشر" عن تلك المواقف وكيف تنعكس على أنماط السلوك المجتمعي العام وتؤثر على حركة المجتمع الكلية من ناحية وعلى تفاعله مع "مجتمع الرؤية" المنشود من ناحية أخرى. إن توفر رصد دقيق وممنهج لقياس التغير في المواقف الاجتماعية إنما يمهد لمعرفة التدخلات من السياسات والبرامج التي يمكن أن تكون موجهة من الأعلى إلى الأسفل أو العكس والتي يمكن أن تقودها المؤسسات أو تقودها النخب الاجتماعية لإحداث التغيير الاجتماعي المطلوب.

وتعتبر الهوية منطلقًا أو مدخلًا أساسيًا من منطلقات الرصد الذي ندعو إليه. ذلك أنه حسبما تشير دراسة "اتجاهات المواطنين القطريين نحو منظومة مقومات الهوية الوطنية في قطر" فإن الهوية نتاج للارتباط بتكوين معين أو بناء اجتماعي تحدده ثلاثة محاور:

1- الهوية تنتج من التفاعل الاجتماعي بين أفراد الجماعة من خلال الممارسات اليومية العادية.

2- الهوية بنية اجتماعية تمكن الأفراد من فهم عالمهم وهي موجودة في البنى الاجتماعية.

3- الهوية تساعدنا على تصنيف الأفكار والممارسات والتنبؤ وهي بذلك تؤدي وظيفة معرفية في البيئة الاجتماعية.

وقد ذكرت الدراسة المشار إليها تعددية مناهج قياس الهوية بين "الاستطلاعات – التجريب – تحليل المضمون". وهذا التعدد في الأدوات مهم في تقديرنا والتوسع في استخدام المنهجيات اعتبار أساسي للوصول إلى كشف دقيق لمسارات الهوية الوطنية أو الهويات المجتمعية. فهناك المواقف "المعبر عنها من قبل الأفراد" وهناك المواقف المضمرة تجاه الهوية. وهناك المواقف المتجسدة "السائلة" في تركيبة الذهن الاجتماعي.

غير أن ما يعنينا في هذا الصدد هو (مركزية – ديمومة) القياس. فمع وجود دراسات واستطلاعات متفرقة بين أكاديمية ومؤسسية تتناول بعض جوانب الهوية أو أجزاء منها يفرض الواقع الراهن الشروع في إيجاد مركزية لهذا القياس والرصد المتكامل والشمولي. ويمكن البناء على ما اقترحته وثيقة رؤية عُمان 2040 بتطوير مؤشر "الثقافة والقيم" والتوسع فيه ليكون مقياس الهوية الوطنية بحيث تتولى جهة محددة تطوير الاستطلاعات والبحوث والتجارب الموسعة والمتعددة المنهج لقياس التحولات الطارئة على الهوية الوطنية ورصدها باعتبارها مدخلًا من مداخل رصد حركة المجتمع. فهناك عديد الأسئلة التي يمكن تكون مثارًا للرصد من قبيل: إلى أي مدى يتغير التماسك الأسري باعتباره مكونًا أساسيًا من مكونات الهوية المجتمعية والوطنية؟ وكيف يؤثر الحراك الجغرافي الاجتماعي والتحول نحو الحواضر على درجة التماسك / التضامن الاجتماعي بشكل عام باعتباره عنصرًا من عناصر الهوية؟ وإلى أي مدى تؤدي مؤسسات النسق الاجتماعي الرئيسية دورها في إذكاء التمسك بالهوية الوطنية بما في ذلك انعكاس المقررات الدراسية والتعليمية بشكل عام على إذكاء الانتماء والشعور والتجسد للهوية الوطنية عند الدارسين؟. ويمكن اعتماد عناصر أساسية من واقع الأدب النظري ومقاربتها بالواقع المحلي لدراسات الهوية الوطنية وقياس التغير عليها على فترات دورية (كل سنتين مثالًا). مع التأكيد على ضرورة أن تكون أدوات القياس قادرة على كشف "غير المعبر عنه" إزاء تلك الهوية.

إن رصد حركة المجتمع رصدًا علميًا من خلال الهوية يعني بالضرورة الكشف عن القابليات والكشف عن مهددات الهوية والكشف عن مواطن وعناصر القوة فيها التي يمكن البناء عليها وإذكائها سواء من ناحية التكوين المؤسساتي أو من ناحية الإذكاء الإعلامي أو من ناحية الحفز بالوسائط المجتمعية والمبادرات المختلفة. وهو خارطة كشف عن مواطن الضعف كذلك – التي لا نأمل أن تكون حاضرة – والتي تشكل فجوات قد تنتج عنها بعض الظواهر أو القابلية لنشوء مشكلات أو تحولات في منظومة القيم والثقافة العامة.