رغم أن آني إرنو التي أُعلن قبل يومين فوزها بجائزة نوبل للأدب لعام 2022 تُرجمت إلى العربية منذ زمن بعيد، وعددٌ غير قليل من أعمالها الأدبية متوفر بالعربية، إلا أنني أعترف أنني سمعتُ بها لأول مرة عندما دخلتْ القائمة القصيرة لجائزة مان بوكر عام 2019م، وفازت بالجائزة جوخة الحارثي. وهنا أفتح قوسًا لأقول إنني أشعر بفخر كبير الآن أن كاتبة عُمانية استطاعت أن تتفوق على أديبة مشهود لها بالبراعة ستفوز بنوبل بعد ثلاث سنوات (في الحقيقة تفوقت جوخة في تلك السنة على كاتبتين ستفوزان بنوبل، فالثانية التي كانت أيضًا في القائمة القصيرة للـ"مان بوكر" هي البولندية أولغا توكارتشوك، وقد أُعلن فوزها عام 2019م بجائزة نوبل المؤجلة لعام 2018م).
عندما بحثتُ بعد ذلك عن أعمال إرنو المترجمة إلى العربية اندهشتُ أنها تكتب في رواية "المكان" (دار شرقيات/ 1994) مقدمة "إلى القارئ العربي" خصيصًا، لأعرف فيما بعد أنها كانت تربطها علاقة صداقة بمترجمة هذا الكتاب أمينة رشيد (شاركها الترجمة سيد البحراوي). تلك المقدمة للقارئ العربي وردتْ فيها شذرة مهمة تلخّص رؤية إرنو للكتابة: "إذا كان ثمة تحرر عبر الكتابة، فهو ليس في الكتابة ذاتها، بل في هذه المشاركة مع أناس مجهولين في تجربة مشتركة. ولمن يعيش ممزقًا بين ثقافتين، ليست وظيفة الكتابة أو نتاجها طمس جرح أو علاجه، وإنما إعطاؤه معنى وقيمة، وجعله في النهاية لا يُنسى". وأعتقد جازمًا أن هذا "المعنى" الذي تعطيه الكتابة للجرح هو الذي أهّلها للفوز بجائزة نوبل، فما عدا ذلك فإن موضوعات كتبها الأدبية عادية، مستلة من حياتها اليومية؛ بعيدًا عن الخيال الذي لا تهتم به أصلا. هل هي روايات؟، الإجابة نعم، ما دامت الحكاية وعمقها الإنساني أهم ما يميز هذه الموضوعات، لكن التوصيف الأدق لكتابتها هو أنها "شيءٌ بين الأدب، وعلم الاجتماع، والتاريخ"، كما تصفها هي نفسها في حوار لها نُشِر عام 1993م (ترجمه إلى العربية كريم عبدالخالق)، مضيفة: "بهذا أقصد أنني أحاول صنع الأسمنت من مواد صلبة، من تجارب مُعاشة، دون أن أتخلى عمّا يجعل الأدب أدبًا، وأساسه الكتابة الجيدة، والالتزام التام بالموضوع الذي أتناوله". من هذه التجارب "المُعاشة" الابتعاد عن أبيها في فترة المراهقة وشعورها بالذنب تجاه ذلك، هذا الشعور وثقته في كتاب "المكان" الذي نُشِر بعد موته، وبعد ذلك سترثي أمها بكتاب "امرأة" (ت: هدى حسين)، وستستعيد شقيقتها الميتة التي لم ترها قط بكتاب "البنت الأخرى" (ت: نورا أمين)، وستوثق تجربة الإجهاض التي تعرضت لها في شبابها بكتاب "الحدث" (ت: سحر ستّالة)، ومرض الزهايمر الذي أصاب أمها بكتاب "لم أخرج من ليلي" (ت: نورا أمين)، وغيرها من الكتب على هذه الشاكلة، كل ذلك بأسلوب السهل الممتنع، وبلغة متقشفة بعيدة عن أية مبالغات إنشائية. أسلوبها يقترب من اليوميات الحميمة، حسب تعبير اسكندر حبش، مترجم كتابَيْها "الاحتلال" و"شغف بسيط" إلى العربية الذي يصفه بأنه "أسلوب بدون تزاويق أو ادعاءات، من هنا هذه المهارة في أن تجعلنا نعتقد وكأن ما تكتبه – من كتاب إلى آخر – ليس سوى يومياتها الحقيقية ومن دون أي تبديل أو تعديل"، وتؤكد إرنو هذا المعنى في أحد حواراتها المترجمة إلى العربية: "لا علاقة لي بالتخييل الذاتي. أود أن أقول ذلك. في التخييل الذاتي هنالك الكثير من الخيال، وهذا ليس موضوعي. هذا لا يهمني. الأدب مثير للاهتمام بسبب ما يقوله عن العالم. لا تعنيني الكلمتان ذاتيّ وتخييل. إنني أفضل في نهاية المطاف الاحتفاظ بكلمة سيرة ذاتية (أوتوبيوغرافي) مع أنه يصعب علي استخدامها".
وصفت آني إرنو نفسها ذات مرة بأنها "مجرد امرأة تكتب"، لكنها في الحياة العامة ليست كذلك. فهي يسارية لها مواقف مشرفة في مناصرة القضايا الإنسانية العادلة، وعلى رأسها قضية الشعب الفلسطيني ونضاله من أجل حقوقه المشروعة، وأظنها بهذا الفوز استطاعت أن تحقق اختراقًا كبيرًا غير مسبوق في الأكاديمية السويدية، إذْ إنها على حد علمي أول أديبة في العالم تفوز بنوبل وهي تنتقد إسرائيل بشكل علني واضح وتناصر فلسطين في المقابل بنفس الوضوح ودون مواربة أو محاولة مسك العصا من منتصفها. فإرنو من أشد المؤيدين لحركة مقاطعة إسرائيل BDS، وفي عام 2018 وقعت عريضة تستهجن إقامة "الموسم الثقافي الفرنسي الإسرائيلي"، معتبرة أن ذلك يساهم في "تبييض" صورة إسرائيل رغم انتهاكاتها لحقوق الفلسطينيين، وفي عام 2019 شاركت في الدعوة لمقاطعة تنظيم مسابقة الأغنية الأوروبية “يورو فيجن” في تل أبيب، وفي 2021 وقعت على رسالة بعنوان "خطاب ضد الفصل العنصري" شجبت فيها الاعتداءات الإسرائيلية على غزة. هذا الانسجام الواضح بين الكاتبة والإنسان هو الذي أعطى أدبها قدرًا أكبر من المصداقية والاحترام.
لفت نظري أن إرنو لم تعتبر فوزها بنوبل نهاية المطاف، بل قالت في تصريحها للتليفزيون السويدي إنه "مسؤولية كبيرة" أُعطيتْ لها من أجل مواصلة الشهادة "لشكل من أشكال الإنصاف والعدالة في ما يتعلق بالعالم". "مواصلة الشهادة" وهي التي تجاوز عمرُها اثنين وثمانين عاما!. لا أظنني سأكون مبالِغًا إذا قلتُ إنه لو مُنِحتْ هذه الجائزة لكاتب عربي يصغر إرنو بربع قرن لاعتبرها مكافأة نهاية الخدمة.