• في ظل مخاوف الركود المتزايدة يسعى منتجو النفط لمواكبة التطورات في المشهد الاقتصادي العالمي


  • قلة المخزون وشح الإمدادات قد تعني تحولا في الأسعار نحو صعود كبير ما لم يؤد الركود لتراجع الطلب على النفط


  • قبل عامين عاش العالم تأثيرات ضخمة لركود مصاحب للجائحة وأدى لخفض الطلب وهبوط حاد في الأسعار


  • لسنوات طويلة أدت أوبك بلس دورا مهما في توازن السوق وضمان إمدادات كافية بسعر ملائم لكل من المصدرين والمستهلكين


  • المجهول الرئيسي في السوق حاليا هو الإنتاج المستقبلي لروسيا




وسط أجواء القلق وعدم اليقين التي تسود تجاه آفاق نمو الاقتصاد العالمي، وتزايد التوقعات بتعرض العديد من الدول الكبرى لحالة من الانكماش الاقتصادي وما قد ينتج عن ذلك من انخفاض الطلب على النفط، جاء قرار مجموعة "أوبك بلس" بخفض إنتاج الدول الأعضاء في المجموعة بنحو مليوني برميل يوميا بدءا من نوفمبر المقبل تحسبا لأي مخاطر اقتصادية خلال الفترة المقبلة قد تؤثر على حجم الطلب على النفط وقد تدفع الأسعار للتراجع، خاصة أن الربع الثالث من العام شهد بالفعل تراجعا في أسعار النفط وحقق أول خسارة فصلية منذ عام، وانخفضت الأسعار بنسبة 25 بالمائة منذ يونيو وحتى قبيل اجتماع "أوبك بلس" الذي تم نهاية الأسبوع الماضي وقررت فيه خفض الإنتاج، وسجلت أسعار النفط انخفاضا إلى أقل من 90 دولارا للبرميل في سبتمبر على خلفية تزايد المخاوف من الركود العالمي وعمليات الإغلاق في الصين بسبب استمرار تفشي الوباء، ثم عاودت أسعار النفط الارتفاع فوق مستوى 90 دولارا في أكتوبر الجاري على وقع التكهنات التي سبقت اجتماع "أوبك بلس" ورجحت قيام المجموعة بخفض كبير في الإنتاج اليومي وهو ما حدث بالفعل خلال الاجتماع الأخير للمجموعة في العاصمة النمساوية فيينا.

في مايو من عام 2020 بدأت أوبك بلس إجراء تخفيضات تاريخية في الإنتاج بمقدار 10 ملايين برميل يوميا بعد تهاوي أسعار النفط جراء الإغلاقات التي عمت العالم بسبب انتشار فيروس كورونا، ومع تعافي الاقتصاد العالمي من تبعات الجائحة بدأت أوبك بلس في تقليل الخفض وزيادة الإنتاج تدريجيا تمهيدا للوصول إلى مستويات إنتاج مماثلة لما قبل الجائحة، وقد تم رفع الإنتاج بشكل مستمر وبكميات متفاوتة على مدار الفترة الماضية، وفي الاجتماع قبل الأخير لأوبك بلس في سبتمبر الماضي تم إجراء أول خفض في الإنتاج بمقدار بسيط هو 100 ألف برميل يوميا لإنتاج شهر أكتوبر الحالي، وكانت هذه المرة الأولى التي تقرر فيها المجموعة خفض الإنتاج منذ أكثر من عام وتلا ذلك قرار خفض الإنتاج بنحو مليوني برميل يوميا الذي تم قبل أيام.

ومجموعة أوبك بلس هي تحالف بين عدد من الدول المنتجة للنفط وبعض هذه الدول أعضاء في منظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) ودول أخرى نفطية من خارج منظمة أوبك مثل روسيا، وبعد التراجع الحاد في أسعار النفط في عام 2014، تم في عام 2016 تأسيس مجموعة أوبك بلس بهدف حفظ توازن السوق عبر تنسيق سياسات الإنتاج بين الدول المنتجة من داخل أوبك وخارجها، وقد أدت مجموعة أوبك بلس -وتعد سلطنة عمان أحد أعضاء المجموعة- دورا مهما خلال السنوات الماضية في الحفاظ على التوازن بين العرض والطلب في السوق النفطية، وتولت مسؤولية تنسيق سياسات الإنتاج بين مختلف الدول الأعضاء من جانب وبين احتياجات الأسواق من جانب آخر في محاولة لضمان وجود إمدادات كافية بسعر ملائم لكل من المصدرين والمستهلكين.

وجاء قرار أوبك بلس في توقيت ما زالت فيه سوق النفط تشهد أزمة إمدادات واسعة النطاق، وقامت عديد من الدول التي تستهلك النفط بكثافة مثل الصين والولايات المتحدة بالسحب من مخزوناتها الاستراتيجية خلال الفترة الماضية، لذلك أصبحت مخزونات النفط بشكل عام عند مستويات منخفضة للغاية، وعلى سبيل المثال أظهرت بيانات من وزارة الطاقة الأمريكية مؤخرا أن مخزونات النفط الخام في احتياطيات الطوارئ للولايات المتحدة هبطت بمقدار 8.4 مليون برميل إلى 434.1 مليون برميل في سبتمبر وهو أقل مستوى في حوالي 38 عاما، وقلة المخزون قد تعني تحولا سريعا في الأسعار الحالية للنفط لتتجه نحو صعود كبير ما لم تتزايد مخاطر الركود العالمي بما قد يصاحبه من تراجع على الطلب.

وفي جانب الإنتاج العالمي للنفط، فحتى الآن يظل السائد هو قلة الإمدادات، وخلال سبتمبر الماضي رفعت منظمة أوبك إنتاج الخام في سبتمبر إلى أعلى مستوى منذ 2020، لكن الدول الأعضاء في أوبك لا تزال بعيدة عن الوصول لمستويات الإنتاج المستهدفة التي أقرتها منظمة أوبك كسقف إنتاج للدول الأعضاء، وتقل الطاقة الإنتاجية لدول أوبك بأكثر من مليون برميل يوميا عن سقف الإنتاج. ووفقًا لبيانات الإنتاج الصادرة عن أوبك، انخفض إنتاج روسيا النفطي بأكثر من مليون برميل يوميا في ظل تبعات الحرب مع أوكرانيا وسعي الدول الغربية للحد من صادرات النفط الروسي.

ومع انخفاض حجم المخزون العالمي وقلة الإمدادات دارت العديد من التساؤلات حاليا في الأسواق عن التبعات المحتملة لقرار أوبك بلس خاصة على أسعار النفط وكفاية الإمدادات خلال الفترة المقبلة، ولماذا اتخذت أوبك بلس هذا القرار بخفض الإنتاج رغم أن أسعار النفط ما زالت عند مستويات مواتية للمنتجين؟ وتكمن الإجابة المحتملة على كثير من هذه التساؤلات في المخاوف الماثلة بسبب الركود والتي تتطلب سياسات استباقية لضمان توازن السوق، فقبل عامين فقط عاش العالم التأثيرات الضخمة للركود على سوق النفط، إذ دخل الاقتصاد العالمي في حالة ركود بسبب تفشي الجائحة وتراجعت كافة الأنشطة الاقتصادية بما في ذلك السفر والتنقل والصناعة مما خفّض الطلب على النفط ودفع الأسعار لهبوط حاد، وبينما تتزايد التحذيرات حاليا من مخاطر ركود جديد بسبب ارتفاع التضخم وسياسات رفع الفائدة التي يمكن أن تدفع معدلات النمو للانخفاض، يبدو قرار أوبك بلس منطقيا لتوقي أي أزمة جديدة تخل بالتوازن في سوق نفط، وقد أوضحت المجموعة سابقا أن قرارات خفض ورفع الإنتاج تأتي دائما لتواكب ما تتابعه المجموعة عن كثب من تطورات سواء في سوق النفط أو في متغيرات المشهد الاقتصادي العالمي.

وإضافة إلى مخاوف الركود هناك عوامل أخرى قد تؤثر على حجم الإمدادات النفطية خلال الأشهر المقبلة خاصة حجم الإنتاج في روسيا، وقد اعتبر تقرير نشرته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية أن المجهول الرئيسي في سوق النفط حاليا هو الإنتاج المستقبلي لروسيا، وهي عضو في أوبك بلس، وقد تأثر إنتاج النفط الروسي بشكل كبير بسبب العقوبات المرتبطة بالحرب في أوكرانيا، لكن الإنتاج الروسي قد ينخفض ​​أكثر إذا شدد الاتحاد الأوروبي العقوبات على روسيا في وقت لاحق من هذا العام، كما يبدو أن صناعة النفط والغاز في روسيا تتجه نحو تراجع على المدى المتوسط ​​لأن الشركات الغربية قد لا تزودها بتكنولوجيا إنتاج النفط بعد الآن، لكن في سيناريو آخر محتمل إذا لم تستمر التوترات الحالية في العالم فستظل روسيا لاعبا رئيسيا في أسواق النفط.

يعني هذا زيادة في المعروض قد تمتصها الأسواق في أوقات اقتصادية معتادة لكن الإنتاج الروسي قد يصب في جانب الطاقات الإنتاجية الفائضة في السوق إذا تعرض الاقتصاد العالمي لركود وانخفض الطلب على النفط.

وفي تحليل نشره موقع "أويل برايس" المتخصص في شؤون الطاقة، اعتبر أن كبار منتجي النفط يرون أن صالحهم هو الحفاظ على إنتاج النفط على المدى الطويل، أيضا بينما أعلنت منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) سابقا أن أسعار نفط تتراوح بين 60 و70 دولارًا تعد مناسبة للمنتجين والمستهلكين، فالعالم قد تغير كثيرا خلال العام الجاري وربما أصبحت المتغيرات الحالية تتطلب رفع المستوى الذي يعد ملائما كسعر للنفط.

وفي الأشهر الأولى من العام الجاري اقترب سعر النفط من أعلى مستوى له منذ عام 2008 ليصل إلى نحو 147 دولارا للبرميل، وحافظت أسعار النفط على مستوى يزيد على 100 دولار للبرميل لوقت طويل قبل أن تتجه للتراجع خلال الأشهر الثلاثة الماضية.

ومع عديد من العوامل والقرارات التي تحرّك مسار أسعار النفط، تظل أساسيات السوق هي ما يتحكم بشكل أساسي في الأسعار وفق حجم العرض والطلب، وكانت هذه الأساسيات خلال العام الجاري أكثر قوة وأشد تأثيرا من أي محاولة لتوجيه السوق وتغيير مسار الأسعار، وقد خاضت أوروبا هذا العام أزمة غير مسبوقة وكشفت هذه الأزمة عن أن أمن الطاقة هو مجرد مصطلح نظري لا يوجد على أرض الواقع وأسعار الطاقة لم ترتفع فقط بل أدى شح الإمدادات إلى تعذر الحصول على ما يكفي من نفط وغاز لتلبية الاحتياجات اليومية للشركات والأفراد في أوروبا، وصاحب هذه الأزمة كثير من المحاولات لتوجيه سوق النفط والغاز، لكن كل المحاولات لم تسفر عن نتائج ملموسة.

من وجهة نظر منتجي النفط، من المؤكد أن مخاوف الركود أمر يستحق القلق، خاصة عندما أصبح الركود الآن أمرا يكاد يكون مؤكدا بالنسبة لأوروبا، وسيتعين على مجموعة أوبك بلس كما أوضحت دائما أن تظل تراقب عن كثب نبض السوق، مع اتباعها في الوقت نفسه نظرة طويلة المدى للحفاظ على قدرتها الفائضة من أجل سوق متوازن على المدى الطويل، وفي هذا السياق، أكدت منظمة أوبك مؤخرا أن القدرة الإنتاجية الفائضة نتيجة خفض إنتاج النفط، قد تسمح للمنظمة بالتدخل في حال حدوث أزمات عالمية بقطاع الطاقة.

يذكر أن الإنتاج العالمي من النفط يصل إلى نحو 95 مليون برميل يوميا، وتستحوذ مجموعة أوبك بلس على أكثر من 40% من إنتاج النفط العالمي من خلال ما يتم إنتاجه من قبل الدول الأعضاء في المجموعة، بينما يبلغ إجمالي إنتاج دول أوبك من النفط الخام 26 مليون برميل يوميا، وظلت الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم في عام 2021 عند 11.2 مليون برميل في اليوم، وبعدها روسيا والمملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية والثالثة.

وفي تقريرها السنوي عن سوق الطاقة العالمي 2022، أشارت شركة بي بي إلى أن عام 2020 شهد أكبر انخفاض مسجل في استهلاك النفط بعد تسع سنوات متتالية من الزيادة، حيث تسببت الجائحة في انخفاض الاستهلاك العالمي من النفط الخام بأكثر من 9% في عام 2020، وارتفع استهلاك النفط العام الماضي بنسبة 6% لكن ظل أقل من المستوى القياسي لاستهلاك النفط في العالم خلال عام 2019.

وبدأت شركات النفط حول العالم في زيادة الإنتاج خلال عام 2021، إلا أن متوسط ​​الإنتاج انخفض لدى ست من الدول العشر الأعلى إنتاجا للنفط لأسباب متعددة بعضها تقنية تتعلق بإنتاج النفط وأخرى ترتبط بحالات عدم الاستقرار السياسي، وكان هذا الانخفاض سببا رئيسيا وراء الارتفاع العالمي لأسعار النفط في عام 2021، وتواصل التوجه نفسه في النصف الأول من العام الجاري.

ورغم أنها من كبار منتجي النفط، فالولايات المتحدة أيضا أكبر مستهلك للنفط في العالم بمتوسط ​​18.7 مليون برميل في اليوم في عام 2021. وسجل استهلاك النفط في الولايات المتحدة أعلى مستوى له على الإطلاق في عام 2005 عند نحو 20.5 مليون برميل يوميا.

وتعد الصين ثاني أكبر مستهلك مع 15.4 مليون برميل يوميا خلال 2021، وعلى مدى العقد الماضي ارتفع استهلاك الصين من النفط بشكل كبير لتلبية احتياجات الاقتصاد في واحد من أسرع الاقتصاديات العالمية نموا.