الدين والسياسة.. يدوران على محور واحد، بحيث يؤثر أحدهما على الآخر، وأثبت التاريخ أنه ليس بالإمكان فصلهما عن بعضهما فصلاً تاماً. والإسلام ليس بدعاً من حركة التاريخ، فالقرآن.. وهو عمدة الإسلام؛ أقوى مؤثر على المسلمين، وقد وضع بصمته على أحداث العالم من بعد نزوله حتى اليوم، وتطرق إلى قضايا كثيرة في حياة الإنسان، من الإيمان بالله حتى أحكام الطهارة. وقد أخذت السياسة حيّزاً مهماً في معالجة الوحي القرآني لعلاقات الناس، بدأً بالبُعد النفسي؛ المتمثّل في الإيمان بالله واليوم الآخر، واقتلاع الشرك من النفس الإنسانية، وانتهاءً بالصراع والحروب التي خاضها المسلمون في غزواتهم، أو في مواجهة أعدائهم.

الروايات المرفوعة إلى النبي الأكرم.. هي الأخرى كان لها وقعها السياسي على حياة المسلمين، بل نشأ كثير منها بسبب سياسي، سواء التي كانت على عهد الرسول ثم جرى إعادة صياغتها سياسيا، أو التي نُسبت إليه اختلاقاً. وقد قلتُ: لا تبحث في الرواية عن سندها بمقدار بحثك عن السياسة التي تقف وراء النطق بها. ومن أهم الكتب التي عالجت هذا الإشكال في الرواية «السلطة في الإسلام» لعبدالجواد ياسين.

مرت السياسة في الإسلام بثلاثة أطوار كبرى، ودخلت في الطور الرابع؛ وهي كالآتي:

الأول.. التأسيس السياسي: بدأ بظهور الإسلام وانتهى مع نهاية القرن الثاني الهجري تقريباً، وفي هذا الطور كانت السياسة تمارس بناءً على ما يفرضه الحدث ذاته، وينزل الوحي تأييداً لها أو اعتراضاً عليها أو تعديلاً لمسارها. ثم بعد النبي باستدعاء الرواية المرفوعة إليه. وهذا الطور البكر كان أكثر حرية في الممارسة السياسية.

الثاني.. السياسة الشرعية: استمر منذ أواخر القرن الثاني حتى بدايات القرن الرابع عشر الهجري، اتسم صدر هذا الطور بالتنظير للفقه السياسي؛ فيما عرف بكتب السياسة الشرعية، وأول ما ألّف فيها كتاب «الخراج» لأبي يعقوب يوسف الأنصاري(ت:182هـ)، وأول كتاب أفرد للسياسة «الإمامة والسياسة» لابن قتيبة الدينوري(ت:276هـ)، ومن أهم كتب أحكام السياسة وإدارة الدولة «الأحكام السلطانية والولايات الدينية»؛ لأبي الحسن الماوردي(ت:450هـ).

انقسم هذا الطور إلى توجهين:

- الخلافة.. وهي تقوم على رؤية براجماتية في إدارة الدولة، رغم أنها لم تتخلَّ عن المقولات الدينية، بل في ظلها ألّفت معظم كتب الفقه السياسي، وقد مثّل توجه الخلافة الدولة المركزية التي قامت على يد الأمويين، ثم نسجت على منوالها الدول الكبرى من بعدها: الدولة العباسية والدولة العثمانية.

- الإمامة.. مثلت التوجه المعارض للخلافة، وهي تقوم بالأساس على المقررات الفقهية، والتزام ظواهر النصوص، وقد امتد نظام الإمامة حتى القرن العشرين الميلادي. من أمثلة هذا التوجه: الإمامة الإباضية في عمان، والإمامة الوهابية في السعودية، والإمامة الزيدية في اليمن، وتختلف ممارسات هذه الإمامات باختلاف مرجعياتها الفقهية. ويمكن إدراج دولة طالبان الأولى في أفغانستان خلال التسعينات ضمن هذا التوجه.

الثالث.. الإسلام السياسي: استغرق القرن العشرين الميلادي، وقد قدمه منظّروه بديلاً عن الأنظمة العلمانية. ورغم أن بداياته العملية كانت مع تأسيس الحركات الإسلامية كجماعة الإخوان المسلمين، إلا أن بذوره الفكرية غرست قبل ذلك، على يد رفاعة الطهطاوي(ت:1873م) وجمال الدين الأفغاني(ت:1897م) ومحمد عبده(ت:1905م)، وهو تيار يعمل على عودة الخلافة الإسلامية بمقررات الإمامة و«لغة العصر»، وليس بحرفية الأطوار التي سبقته. ولذلك؛ نجد المنظّر الفكري الأشهر له سيد قطب(ت:1966م)؛ يدعو في مؤلفاته إلى تبني الخلافة الإسلامية مستلهماً التجربة النبوية، وفي المقام نفسه ينتقد ممارسات دول الخلافة من بعدها كالدولة الأموية والدولة العباسية، ويراها لا تمثّل الإسلام. ومع قطب يعدّ أبو الأعلى المودودي(ت:1979م) أهم مفكرَين لتيار الإسلام السياسي، وقد جاءت كتبهما بأسلوب «الكتابة الشعبية»، فتركت أثرها البالغ على المسلمين، وقد تحدثت عن طبيعة هذه الكتابة في مقالي «الكتابة الشعبية وأثرها السياسي»؛ [«عمان»، 2/ 8/ 2022م].

عموماً.. أخذ الإسلام السياسي خطين: خط الإصلاح.. وقد اعتمد أساليب الدعوة والحشد الشعبي للوصول إلى الحكم، كما استعمل الأدوات السياسية المتاحة من الانتخابات الديمقراطية والثورات والانقلابات العسكرية، وأقوى نجاح لهذا الخط هو الثورة الإيرانية. وخط العنف.. الذي اعتمد أسلوب تشكيل الجماعات الإسلامية ذات النزعة العنيفة، والتي تتوجت بالقاعدة وداعش والنصرة وبوكو حرام وشباب الإسلام. وهذا الطور يطوي الآن ذيوله آذناً بالرحيل، مخلياً الطريق للطور الرابع من تطور النظام السياسي لدى المسلمين.

ترك هذا الطور أثره عميقاً على المسلمين، ويمكن أن يعتبر الإسلام السياسي نظرية شمولية؛ قدمها أصحابها للعالم، وليس للمسلمين فحسب. وقد أثر فعلاً على العالم، وأكثر من تفاعل معه -بعد المسلمين- الغرب، ورغم التّماس الواضح بين الإسلام السياسي والغرب، ومحاولة استغلال كل طرف الأوضاع لصالحه على حساب الآخر، إلا أن كفة الغرب كانت هي الأرجح في هذه المغالبة، وقد حصل ذلك على محورين: مقاومة الأفكار الشيوعية، ومناهضة القومية؛ بغية تثبيت الأنظمة الموالية له في العالم الإسلامي. إلا أن الغرب لم يقتصر على هذا الاستغلال، أو على تأزم العلاقة بينه وبين الإسلام السياسي إلى درجة الصراع، وإنما وُجِد أيضاً نتيجة تفشي الحداثة الغربية في العالم مساران مؤثران بقوة:

- المسار العملي.. حيث ظهرت لدى المسلمين أنظمة سياسية مختلفة عمّا شهدوه من قَبل في نظامي الخلافة والإمامة، أنظمة لا يمكن وصفها بإسلامية أو ليبرالية أو ديمقراطية، وربما الملكية المصرية يمكن القول فيها بأنها كانت تتطور باتجاه الديمقراطية، إلا أن ثورة الضباط الأحرار قضت على الملكية عام 1952م.

- المسار الفكري.. ظهرت مؤلفات تجديدية لأطروحات السياسة الشرعية، ومن أول هذه الكتب وأبرزها «السياسة الشرعية أو نظام الدولة الإسلامية في الشئون الدستورية والخارجية والمالية»، هذا الكتاب فاصل زمني ومعرفي بين المؤلفات القديمة والمؤلفات الحديثة في السياسة الشرعية، وكما استفاد مما سبقه من مؤلفات؛ فقد ألقى بظلاله على جل مَن جاء بعده.

«السياسة الشرعية».. من تأليف عبدالوهاب عبدالواحد خلّاف(ت:1956م)، وهو من كبار علماء الأزهر والمجددين في الفكر الديني، يعد من الطبقة الثانية في الإصلاح الديني الحديث بعد طبقة محمد عبده، ويأتي في طبقة محمد أبو زهرة(ت:1974م)، ولا يقل عنه تأثيراً في أطروحاته في المعرفة الدينية، وقد برز خلّاف في جانبين؛ هما: السياسة الشرعية، وأصول الفقه، وكلاهما على تماس كبير بالسياسة والقانون لدى المسلمين. كتاب «السياسة الشرعية».. قام على رؤية الدولة الحديثة المرتكزة على الحرية والعدالة والمساواة والنظام الاقتصادي الرأسمالي، وبناء دولة المؤسسات والقانون. لكنه لم يحرر رؤيته بفلسفة الفكر الغربي، وإنما عضّدها بمقولات المرجعية الإسلامية؛ من القرآن والحديث وأصول الفقه. فكان كتابه توفيقياً بين معطيات الحضارة الغربية والنصوص الإسلامية، فهو لم يبعد كثيراً عن الخط الذي سار عليه قبله محمد عبده.

الرابع.. السياسة الإسلامية المدنية: هذا الطور يمكن القول بأنه بدأ عملياً بوصول «حزب العدالة والتنمية» لحكم تركيا عام 2003م. لم أطّلع على مؤلفات له، ولعل السبب حداثة نشأته، أو لأن البداية في تركيا؛ ولم تترجم حتى الآن كتبه ومقرراته. لكني تطرقت قليلاً لبعض ملامحه في مقالي «مستقبل الإسلام السياسي» [«عمان»، 14/ 12/ 2021م]؛ وملخص ما جاء فيه: (أن هذا التوجه لم يأتِ ثورةً على النظام العلماني الذي سبقه، بل اعترف به، وآمن بالديمقراطية وعمل بمقتضاها. وقوّى الدولة ولم يعادِ قوميتها؛ بل أكد على مركزيتها، وربط بينها وبين الإسلام. وتبنّى النظام الرأسمالي؛ مع محاولة تهذيب توحّشه بالقيّم الإسلامية. وعمل على التصالح مع القيّم الغربية، ولم يقطع علاقته بإسرائيل. ولم يستكِن للميكنة الغربية؛ بل دفع بالدولة لأن تكون مساهِمة إقليمياً في البناء السياسي والاقتصادي والعلمي والاجتماعي).