يخبرنا تقرير (مسح صناعة الألعاب 2022) الذي أعدته مؤسسة (global EY) في ألمانيا، وضمن محاولة لإجابة السؤال (ما الممكن لصناعة الألعاب في بُعدها المقبل؟)، أن شركات الألعاب الإلكترونية تستعد لولوج (بُعدا جديدا)؛ فعلى مدى السنوات الخمس الأخيرة، شهدت هذه الصناعة توسعا كبيرا ضمن عالم افتراضي (مشترك)، و(مستمر)، و(ثلاثي الأبعاد)؛ حيث "يتفاعل المستخدمون مع الكائنات والبيئة وبعضهم البعض من خلال التمثيل الرقمي لأنفسهم أو الصور الرمزية" – حسب تقرير المسح -، ولهذا فإن انتشار هذه الألعاب على مستوى العالم، مكَّنها من الدخول إلى (عالم الأعمال)، ووسائل التواصل الاجتماعي، حتى أصبحت (المحَرِّك الأول) في العديد من أنظمة الأعمال والصناعة.

وضمن دراسة حالة صناعة الأعمال، يُقدِّم تقرير المسح مجموعة من المؤشرات التي تبين نمو سوق هذه الصناعة عالميا؛ حيث "لعِب ما يُقَّدر بنحو 2.9 مليار شخص – أكثر من واحد من كل ثلاثة أشخاص على هذا الكوكب – لعبة فيديو في عام 2021، وقد تجاوزت الإيرادات العالمية للصناعة (193) مليار دولار، إضافة إلى أنه ما بين (2016-2021) نمت الألعاب بمعدل نمو سنوي مركَّب قدره 15.6%"، ولقد كان لوباء كورونا (كوفيد 19) تأثيرا كبيرا في نمو هذه الصناعة، بسبب إقبال المجتمعات على الترفيه نتيجة لإجراءات الحد من تداعيات الجائحة خلال الأعوام الماضية، وبعد انحسار الوباء وعودة المجتمعات إلى ممارسة حياتها، يتوقع التقرير تباطؤ معدلات نمو إيرادات الألعاب العالمية في عام 2022؛ إلاَّ أنه يؤكد أن"التركيبة السكانية المواتية)، و(التكنولوجيا المتطورة)، و(طبيعة بناء المجتمعات الحديثة)، قد دعمت الصناعة بشكل كبير، ومهَّدت لتطورها ونموها في أصعب الظروف، ولهذا فإن هذا التباطؤ لن يكون عائقا أمام صعود هذه الصناعة في الربع الأخير من العام.

يشير تقرير المسح إلى أنه من المتوقع "أن تولِّد صناعة الألعاب في العام 2025 ما يقدَّر بنحو 211 مليار دولار في الإيرادات، حيث تُسهم الألعاب المحمولة بمبلغ 116 مليار دولار" – حسب ما ورد في التقرير -. إنها توقعات تنبني على سرعة نمو هذه الصناعات، وما وصلت إليه من تطورات تقنية خاصة خلال الخمس سنوات الأخيرة، مما مكَّنها من (زيادة سرعة المعالجات التقنية)، و(تحسين الرسومات)، و(تطوير تجربة الألعاب)، مما يُسهم في زيادة مستمرة في النمو خاصة في صناعة (الألعاب متعددة اللاعبين)، و(الألعاب المحمولة).

إن صناعة الألعاب الإلكترونية تشهد نموا وتحسنا على المستوى التقني، من حيث الصناعة الرمزية التي تقوم عليها؛ فمنذ أن ظهر مفهوم (الكون الرقمي) في رواية الخيال العلمي (حطِّم الثلج) في العام 1992 للكاتب الأمريكي (نيل ستيفنسون)، حتى تأسس هذا المفهوم وتشكَّل، وأصبح هذا (الكون الخيالي حقيقة واقعة)، تعتمد عليها شركات الألعاب في ابتكار كون رقمي يستخدم فيها اللاعبون صورا رمزية للتفاعل فيما بينهم، ضمن (عالم افتراضي). ولعل توفر تقنية الميتافيرس (Metaverse) التي تعتمد على العوالم الافتراضية والواقع المعزز، جعلها ساحة تقنية قادرة على تشكيل (محاكاة افتراضية للواقع)، يمكن من خلالها الولوج إلى عالم الأعمال والصناعة، والألعاب وغيرها، ولهذا فإن تقرير المسح الذي أعدَّته (global EY) يتوقع في إحدى تقديراته أن "يصل سوق الميتافيرس العالمي إلى 280 مليار دولار بحلول عام 2025" – حسب ما جاء في نتائجه -.

ولعل السؤال الذي يمكن أن نطرحه هنا يرتبط بتلك العلاقة بين هذا التطور التقني الهائل في عالم الألعاب الافتراضي، وثقافة المجتمعات، فالمتتبع لهذه الألعاب سيجد أنها تقوم على فكرة ثقافية ما، سواء أكانت مرتبطة بثقافة المجتمعات أو ثقافة منظمات معينة وتوجهاتها ، أو حتى تيارات فكرية، وبصرف النظر عن أيديولوجيات هذه الأفكار أو الثقافات وخلفياتها ، فإن ما يهم هنا هو ذلك الارتباط الذي يجمع بين الثقافة والألعاب الإلكترونية، ولعل هذا ما دفع تقرير اتجاهات التكنولوجيا لعام 2022 (العمل، والثقافة، واللعب) إلى طرح مجموعة من الأسئلة المتعلقة بـ"اتجاهات التكنولوجيا التي تؤثر على كيفية عملنا، وما الذي سيشكِّل ثقافتنا، وكيف سنلعب؟"؛ حيث يكشف لنا خلال محاولة الإجابة عن تلك التساؤلات (القوى الكلية)، و(الاتجاهات الناشئة) التي تتشكل ضمنها معظم الصناعات التي تفتح مجالات الإبداع والابتكار ضمن (ثروة الأفكار الجديدة) المستمدة من الثقافة باعتبارها تشكلات معرفية تقوم عليها المجتمعات؛ فالتطور الذي تشهده التقنية ضمن مفهوم (الكون الرقمي)، يؤثر مباشرة على الثقافة في تطورها الفني والفكري وبالتالي في الصناعات الإبداعية والثقافية عامة.

إن هذه العلاقة هي الأساس الذي تقوم عليه صناعة الألعاب الإلكترونية، وقدرتها على التأثير في المتلقي من حيث خَلق كون افتراضي يتحرك خلاله للوصول إلى أهداف معينة ضمن توقعات كل لاعب وقدرته على فهم ثقافة اللعبة وأسسها، ولهذا فإن تقرير اتجاهات التكنولوجيا الحديثة تضمَّن ما يسمى بـ (إعادة إدراك الواقع)، وهو فعل يقود إلى (إمكانات وجود مستقبل يختلف عن توقعاتنا)؛ ذلك لأن التكنولوجيا تقودنا نحو آفاق جديدة، لمواجهة (عدم اليقين العميق والتكيف والازدهار)، حيث قدَّم التقرير تحليلا لما يقرب من (600) اتجاه للتكنولوجيا والعلوم تؤثر في قطاع الصناعات، ولذلك فإنه يوصي بدراسة التأثيرات المحتملة على المدى القريب والبعيد لذلك التأثير من ناحية، وتعديل الخطط والعمليات ونماذج الأعمال بناء على ذلك؛ فتأثير التكنولوجيا على الأعمال والثقافة يتأسس ضمن مجموعة من المعطيات يحركها (الواقع المعزز) في ظل التطورات المتسارعة للتقنية التي فرضتها الجائحة منذ العام 2020.

يصف تقرير الاتجاهات الألعاب الإلكترونية باعتبارها (مُحرِّكا) للنظام البيئي الثقافي والتجاري بأكمله، الأمر الذي يجعل من العديد من الشركات المتخصصة في صناعة الألعاب أحد أهم المنافسين في سوق التكنولوجيا؛ فقد "حرَّكت صناعة ألعاب الفيديو نفسها ضمن قطاعات الترفيه الأخرى لتصبح القائد"، حتى شكَّلت هذه الألعاب (التيار الرئيسي الموجِّه للثقافة) خاصة في آسيا وأمريكا الشمالية وأوروبا– حسب التقرير –، مما يعبِّر عن قدرة هذه الألعاب على (التغيير الثقافي) من ناحية، وتأثيرها على أنماط الحياة من ناحية أخرى، نتيجة لما تحمله من أيديولوجيا فكرية موجهة.

ولأن الألعاب الإلكترونية تقوم في الأصل على فكرة ثقافية، فهي وإن حلَّقت في (الكون الرقمي) عبر مجموعة من الأكوان الافتراضية المعزِّزة فإنها تنطلق من المجتمع (ثقافة وفكرا)، وبالتالي فإنها ضمن هذه المعطيات تشكِّل قدرة ثقافية، تمثل (قوة ناعمة) قادرة على توجيه ثقافة المجتمع وتغيير أنماطها. والحال أننا في سوق الألعاب الإلكترونية نواجه العديد من التحديات من أهمها، أننا نستورد هذه الألعاب من مجتمعات ذات أيديولوجيات مختلفة، تقود بمفاهيمها مجموعة من القوى الثقافية القادرة على التأثير، ولهذا علينا أن لا نقف على حافة هذا السوق الثري بمستوياته الاقتصادية والثقافية والتقنية، بل علينا الولوج إلى زحامه، لإيجاد منافذ قادرة على تصنيع ألعاب ثقافية منافسة ذات أبعاد محلية وإقليمية من ناحية، مستفيدين من المعطيات التقنية والثقافية التي يمنحها العالم في انفتاحه.

والحق أننا في سلطنة عُمان نملك القدرات البشرية الإبداعية والابتكارية خاصة في فئة الشباب وأجيال الألفية الذين توفرَّت لهم منافذ التدريب خاصة في السنوات الأخيرة، وما منحته الحكومة الرشيدة من اهتمام كبير في مجال التقنية والابتكار، إضافة إلى ما تقدمه القطاعات المختلفة من دعم، ولهذا فإن علينا العمل بمهنية وجديِّة من أجل الاستثمار في هذا القطاع الثقافي والتقني المهم، ليس على المستوى الاقتصادي وحسب، بل أيضا على المستوى الاجتماعي.

إن الألعاب الإلكترونية ليست مجرد ترفيه. إنها قوة ثقافية واقتصادية علينا دعمها وتعزيزها على المستوى الوطني، تلبية لمتطلبات المرحلة المقبلة من حياة مجتمعنا الفتيِّ.