مع بداية النهضة العمانية الحديثة في بداية السبعينات من القرن الماضي، افتتحت العديد من المكتبات في العديد من الولايات والمناطق بمحافظة ظفار، ومنها تأسيس مكتبة صغيرة بمكتب إعلام ظفار الذي يحمل هذه التسمية في ذلك الوقت، وكانت ظفار تعيش وقتا استثنائيا بسبب الأوضاع غير المستقرة آنذاك، وكانت تأتي العديد من الكتب والمطبوعات العربية لهذه المكتبة من كل الاتجاهات الفكرية، ثم تم افتتاح مكتبات تجارية لبيع الكتب والمطبوعات بولاية صلالة، وقد كنت مع بعض الزملاء نقرأ من هذه المكتبة التابعة لمكتب الإعلام في الفترة المسائية، وكان الدوام في السنوات الأولى للنهضة على فترتين، كما كان في فترة حكم السلطان سعيد بن تيمور، إلى أن تغير إلى الفترة الصباحية في عام 1974. ومن الأشياء التي قرأتها في بداية السبعينات من القرن الماضي، كتاب الفيلسوف والمؤرخ الألماني أوسفالد شبنجلر، أو «تدهور الحضارة الغربية»، كما جاء في الترجمة العربية لهذا الكتاب في عام 1923، كانت قراءتي للكتاب بالمكتبة آنذاك لما تضمنه من آراء تعد غريبة آنذاك، ثم أن العديد من الكتابات العربية التي كتبت عنه، إما بحثاً لما طُرح، وإما عرضاً مستفيضاً له، وقد كانت كلها شغفاً وفرحاً بما قاله شبنجلر عن الغرب وانحداره واضمحلاله، وكنت كذلك أيضاً سعيداً بهذا التحليل، ولم نكن قد ملكنا القراءة الثاقبة الواعية كما نحن الآن، وللأسف أن هذه النظرة غير الدقيقة في التقييم لما كُتب، هو الذي جعل الكثير من الكتاب والباحثين العرب ينتظرون ذلك اليوم السعيد لانحدار الغرب، أو تدهوره، بحكم النظر للغرب كمستعمر للبلاد العربية، وما قام به من أجل أن تبقى الأمة رهينة وضعها الحالي، المجرد من الإمكانيات والقدرات التي تجعلها قادرة وفاعلة في عصرنا الراهن، في الوقت الذي صنع إسرائيل وساندها في كل ما فعلته بالحق الفلسطيني المشروع حتى الآن.

والأمر الذي لم يدركه بعض الباحثين والكتاب العرب، الذين يصرون على الكتابة عن «أفول الغرب»، أو انحداره، أو تدهور حضارته، وإلى حد الآن لا تزال تكتب الكتب حول «أفول الغرب»! وربما أن هؤلاء قد لا يدركون أن هذه الكتابات الغربية عن انهيار أو موته، أو غيرها، من أوجه النقد للسياسات والنظم الغربية القائمة، ليس مقصدها الكراهية، أو التشفي، لكن هذه الكتابات، هي نوع من التحذير والإنذار لصناع القرار في الغرب، فيما تعيشه الحضارة الغربية، من صراعات وتوترات وحروب، بعضها امتد لما يقرب من ثلاثين عاماً بين الدول الأوربية، وحصدت عشرات الملايين ، ثم جاءت الحرب العالمية الأولى، ثم الثانية، والتي عاشها «شبنجلر» في حياته في القرن الماضي، وكتب هذا الكتاب كردة فعل لمآسي هذه الحروب والصراعات، وفعلاً هذا الكتاب كأنه نُذر الخطر للغرب، وأن عمر الحضارات محدوداً، وهذه الكتابات الغربية عن نقد الغرب، لم يعتبروها خيانة أو عمالة، لكنهم يرون أنها قد تفيد صناع القرار وقياداته لبعض السلبيات التي وُجدت، أو ربما ستوجد، إن لم يتم تفاديها، كما أن ما كتبه العلامة ابن خلدون في مقدمته الشهيرة، وقد يكون المؤرخ شبنجلر قد اطلع على رؤية ابن خلدون في عمر الحضارات، لكن الفارق الذي تحتاجه الأمة وصناع القرار فيها في الوطن العربي، أنهم لم يهتموا الاهتمام الذي يستحق لما قاله ابن خلدون عن صعود وسقوط الحضارات، أو العمران البشري ـ وسيكون لها حديث آخر ـ وحتى الكتابات العربية الفكرية والتاريخية، لم تذكر التحليل الخلدوني لفلسفة التاريخ لقرون عدة، ولم يتم التعرف على نظريته في علم الاجتماع البشري، إلا من خلال الكتابات الغربية!.

وهذه من الأخطاء التي ساهمت في تراجع الأمة في عدم معرفتها بسير الحضارات وفق المنهج الخلدوني، وغياب النظرة الموضوعية لما يجري من سلبيات واضطرابات، أو ما هي الأسباب التي تمنع الانحدار والسقوط أو وقفها، من خلال استقراء الحوادث والقرائن والدلائل الدافعة للهبوط للخلف، بدلاً من حصول الدول والممالك إلى الفوضى والصراعات، وهذا ما جعل المؤرخين الغربيين يطلعون على نظرية ابن خلدون في منهج وأسس الاجتماع البشري، أو ما سماه ابن خلدون بـ(علم العمران)، واستفادوا منه أيما استفادة، وكتبوا عن ذلك لدرء المخاطر واكتشاف ما يجعل الانحدار قليلاً أو نادراً، والإشكال أن البعض من الباحثين العرب مع تقديرهم له كعالم كبير وموسوعي في تاريخه لحياة عاشها بنفسه، وكتب المقدمة عنها، يطرح فيها الأسباب التي تدفع الممالك العربية إلى الانهيار، في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرها من الأسباب.

ومن الأخطاء التي أخذت أيضاً على ابن خلدون، من بعض الباحثين العرب، أنهم تحدثوا عن قضية أعمار الدول التي قالها، والتي تمكث ثلاثة أجيال فقط لا تتعدى مائة وعشرين عاماً، وهذه التقدير لا يمكن قياسه على دول مركزية قوية متماسكة، فالدول العباسية مكثت خمسة قرون كاملة، والدولة النبهانية العمانية مكثت خمسة قرون، والدولة الأموية في الأندلس بقيت ما يقرب من قرنين ونصف، والدولة العثمانية مكثت أيضاً عدة قرون حتى إلى أوائل القرن العشرين. والإشكال الذي وقع فيه العديد من الكتاب العرب الذين اهتموا بفلسفة التاريخ لابن خلدون، لم يفرقوا بين الدول المركزية، والممالك والدويلات الصغيرة، التي كانت تعيش في اضطرابات وصراعات، وأسبابها ذكرها ابن خلدون، وهو لا يقصد الدول المتماسكة القوية، لكنه الذي قصده هي الدويلات التي خرجت نتيجة تراجع الأمة العربية/ والإسلامية، وعندما جاء ابن خلدون إلى مصر وعاش فيها فترة، وكتب فيها المقدمة أو بعضها، وجد الأمر مختلفاً تماماً، مقارنة ببعض الدويلات التي أصابها الانهيار وعاش تجربتها، كما أن ابن خلدون ذكر أسباب عديدة لانهيار الدول، ولم يذكر سببا وحيداً لانهيارها، أو السيطرة عليها نتيجة التقهقر، فذكر بعض الأسباب التي تدفع إلى اضمحلال والضعف منها: غياب العصبية المساندة، ومقصود ابن خلدون بالعصبية بالمفهوم المعاصر التأييد الشعبي الجماهيري المؤيد للحكم، الإقليمية والعرقية، الفساد الإداري، الترف والفساد.

ولذلك كانت رؤية ابن خلدون أسبق من الكثير من الفلاسفة الغربيين الذين تحدثوا عن صعود الدول أو المالك وسقوطها، ومن هذه الفرضيات الناضجة، يرى د. فهمي جدعان في بحثه القيم «ابن خلدون في الفكر العربي الحديث» أن: «الأزمنة الحديثة العربية تبدأ مع ابن خلدون لا مع حملة نابليون على مصر كما يظن الكثيرون». وهذا الرأي يؤكد أن أمتنا أخطأت عندما تلمست المخرج لتأخرها وتراجعها عن موقعها الحضاري العالمي السابق، الذي استفادت من الحضارة الغربية، فلو رجعت إلى بدايات التحليل الخلدوني، للواقع العربي منذ قرون، لما سعت تلهث وراء الحضارة الأوروبية لتقليدها ـ مجرد تقليد ـ وليس الإبداع من خلال المنهج، وهذا ما سار عليه فلاسفة الغرب في نهضتها، ووفق ما أسسه ابن خلدون في الاجتماع البشري، فقد استفاد منه العديد من المفكرين والفلاسفة الغربيين، من أمثال «أوجست كونت»، «ودوركهايم، وحتى الفيلسوف والمؤرخ «هيجل»، وهو يعد من رواد فلسفة التاريخ الحديث، كما يقول الباحث حسين هنداوي في كتابه: (التاريخ والدولة ما بين ابن خلدون وهيغل) :أن هذا الفيلسوف استقى الكثير من آراء ابن خلدون في غاية الدولة وأطوارها، وأسباب سقوطها، وهي فعلاً حققت الهدف والتذكير من مخاطر السقوط والانهيار، واستفادت حضارتهم، مع كثرة الحروب الكبيرة التي حصلت بينهم، وهذا الأزمات العربية التي عشناها ونعيشها، وتراجعنا عن الركب التي سارت الحضارة العربية في أوج مجدها، ذلك أننا لم نبحث الخلل في أوضاعنا السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وغيرنا نجح في مراجعاته التي مر بها. ولا شك أن ابن خلدون يعد من أبرز علماء الاجتماع في تاريخ الإنسانية، حيث طرح نظريات غير مسبوقة في التاريخ والسياسة والعمران وبحث في كتاباته تطوّر المجتمعات، ونقد المؤرخين على أسس علمية منطقية، قال عنه المؤرخ البريطاني الشهير «آرنولد توينبي» في كتابه (دراسة التاريخ)، لقد: «وضع ابن خلدون فلسفة للتاريخ وهو بدون مجاملة أعظم عمل في نوعه ابتدعه العقل في أي زمان أو مكان». فآراء ابن خلدون، ليس بها «حتميات» كما تقول بعض النظريات الحديثة التي تدعى العلمية، وتنطلق من أيديولوجية محددة، وقسمت الشعوب إلى عقلية بدائية وعقلية راقية، فلو أمتنا تلمست الطريق وفق المنهج الذي وضعه ابن خلدون لكنا في وضع مختلف، ولما صرنا عيالاً على غيرنا!