حين كتب المفكر الفرنسي باسكال بونيفاس، مدير معهد العلاقات الدولية والاستراتيجية في باريس، كتابه المعروف «المثقفون المغالطون» للتعريض بمفكرين ذوي ضحالة فكرية لكنهم ذائعو الصيت إعلامياً، بحيث تم تعويمهم في ذلك الإعلام على أنهم فلاسفة؛ من أمثال برنارد هنري ليفي وآخرين، جعل بونيفاس لكتابه ذاك عنواناً جانبياً شارحاً لعنوان الكتاب الرئيس بهذه العبارة الموحية: «الانتصار الإعلامي لخبراء الكذب».

ويمكن استخدام العنوان ذاته، لكن هذه المرة ليس حول مثقفين مغالطين، بل عن أدعياء وسَرَقَة يمكن للفيسبوك أن ينتصر لهم إعلاميا عبر الصيت الذي توفره «اللايكات» والتعليقات التي تحفزهم باستمرار على استدرار الكذب!

مشكلة الكذب عبر فيسبوك تثير تساؤلاً مثله تماماً مثل مشكلة الحرية في ذلك الفضاء الأزرق، فالمساحة الغامضة التي يسكت عنها فيسبوك حيال استحقاقات تتعلق بمسألة الحرية، هي ذاتها السلطة التي يمنحها للكذبة؛ أدعياء المناولات المسروقة والمواد المزيفة التي تترك في المجتمعات المأزومة، كمجتمعات العالم الثالث، مشكلات تتناسل بالشرور. لقد أصبح فيسبوك محيطاً يتعذر التحكم فيه لضبط التحديثات التي تتناسل فيها الأكاذيب على نحوٍ مبالغ فيه.

إن الإشكالية هنا حيال ظاهرة الكذب في فيسبوك تكمن في أن المعايير التي يمكن توصيف فئاتها في الفيسبوك ضمن فئة «المؤثرين» قد لا تتورع عملياً عن رفع حظوظ أمثال هؤلاء وفقط بمجرد الاستخدام والمثابر على تلك المناولات الكاذبة!

وإذ يشكو اليوم كثيرون من ردود الفعل الخطيرة لوسائل التواصل الاجتماعي بطريقة تعكس خطورة الأمر لكنها في الوقت ذاته لا تملك أساليب ناجعة في الحد من ذلك التأثير فإن هذا بذاته يعكس مأزق بداية التحولات الكبيرة في الظواهر الكبرى التي تشكل في بداياتها حيرةً للكثيرين.

إن صناعة الكذب في فضاءات التواصل الاجتماعي والفيسبوك بصورة خاصة، لا تكون كذلك بوصفها ممارسة ممكنة الفعل بل ممارسة مغرية للفعل، فوفق هذه الخاصية الأخيرة سيكون هواة الأكاذيب في الكوكب الأزرق ليسوا فقط طائفة ممتهني الكذب وإنما كذلك طائفة أخرى ممن لها قابلية لإغواء الكذب عبر ما يبذله فيسبوك للمشتركين من مميزاته في مساحات النشر والتفاعل.

قد لا يبدو الكذب على فيسبوك بتلك الثيمة التي تأخذ عفويتها في الأسواق والمقاهي الشعبية، فهنا في فيسبوك ثمة اكتراث - على الأقل - لحد أدنى لمطلق الكتابة، وكذلك لحد يهجس بصاحبه من أجل ضمان متابعين ومعجبين.

إن العمليات التفاعلية التي يتيحها فيسبوك وقاعدة المتابعين الذين تستثير انتباههم مفارقات لا متوقعة ومناولات مثيرة للاهتمام من حيث ظاهرها وغرائبيتها تعكس إغراءً كبيراً لكل داخل إلى حظيرة الفضاء الأزرق وتلهمه الكثير ليقوله من خلال ذلك التفاعل فالتفاعل المبني للمجهول، أحياناً - عبر الحسابات المزيفة والصور المزيفة - قد يكون أكثر إغراءً لمن يريد أن يمارس شراً يستحي منه في العلن!

ففي فضاء فيسبوك إغراء يتقارب فيه الخيال من الإرادة مع القدرة على التحلل والتحرر من جرائر صغيرة لكنها قابلة لأن تكون أكبر، بمرور الأيام، وبتنامي المعجبين والمعلقين ليصل الأمر إلى درجة لا يمكن معها الاستغناء عن عادات الكذب!

وحتى اليوم، فيما تعاني المجتمعات المتخلفة من مفارقات وتداعيات ضغوط ما يسمى زوراً بـ»الإعلام الجديد» وإكراهاته، ستمر مياه كثيرة تحت الجسر حتى ينتبه القائمون على وسائل التواصل الاجتماعي إلى معايير ضابطة وضوابط تنتبه لخطر صناعة الكذب، أو تتوصل البشرية إلى وسائط أخرى أكثر إغراءً وأشد منافسة دون الحاجة فيها إلى اللعب بمعايير الضبط الأخلاقي للنشر.

هكذا فيما بدا حتى الإعلام اليوم بتقنياته ومنهجياته معترفاً بقوة وسائل التواصل الاجتماعي وما تفرضه من واقع جديد ومؤثر على الناس بصورة غير مسبوقة سيتعين على وسائل الإعلام المتخصصة بعض الكذب للترويج، عبر منافسة غير متكافئة بينها وبين وسائل التواصل الاجتماعي التي حتى من دون ضبط معايير النشر فيها أصبحت لديها سطوة لا مفر منها في عالم أصبح اليوم يلهث وراء «المؤثرين» في وسائط التواصل الاجتماعي ليس من أجل الاكتراث لجودة المحتوى الذي ينتجه أولئك المؤثرون، وإنما ملاحقةً لمتابعيهم الذين يعدون بالملايين أحياناً.

قد لا يبدو غريباً أن يكون الكذبة خبراء في عالم فيسبوك إذا كان الإعلام بوصفه خطاباً قد فعل ذلك من قبل!