الحرب الروسية الأوكرانية التي تدور رحاها منذ شهر فبراير الماضي، لا يعلم أحد متى تنتهي وما مآلاها؛ ولكن المؤكد أنها تنذر بخطر داهم يمكن أن يطال العالم بأسره بفعل حالة من الجنون البشري الذي لا تُحسب عواقبه. ولذلك فإن هذه الحرب تستدعي عندي بعضًا من التأملات في الوضع العالمي الراهن:

الحرب والعدوان حالة متأصلة في طبائع البشر، ولكنها عبر تاريخ البشرية -حتى حينما بلغت ذروتها في الحرب العالمية الثانية- لم تكن على هذا النحو من الخطر الذي يهدد العالم نفسه بالدمار. هناك بالفعل بوادر حرب عالمية ثالثة مستترة أو ضمنية، مسرحها أرض أوكرانيا: حرب بالوكالة بين معسكر الناتو في مواجهة روسيا والقلة من حلفائها في السر والعلن. ولا ينبغي النظر إلى تحرش الولايات المتحدة الأمريكية بالصين علانيةً في بحر الصين، وسعيها الدؤوب لاستقطاب اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان بهدف تطويق روسيا والصين، أقول: لا ينبغي النظر إلى هذا الأمر باعتباره منفصلًا عن الحرب في أوكرانيا؛ ومن ثم فإنه ليس منفصلًا عن إرهاصات حرب عالمية ثالثة. أوكرانيا هي مجرد مسرح العمليات الذي تدق فيه طبول هذه الحرب، ويتجلى فيه صراع إرادات القوى العظمى في العالم الراهن الذي لم تعد تهيمن عليه قوة مركزية واحدة. ورئيس أوكرانيا الذي صنع منه معسكر الناتو بطلًا قوميًّا وعالميًّا أيضًا هو شخص لا حيلة له، ولا يفطن إلى أن الذي صنع الهالة حوله هو المعسكر الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وهو الذي جعل البرلمانات الأوروبية العتيدة تقف وتصفق إجلالًا واحترامًا لخطاباته الموجهة إليها عبر الواقع الافتراضي، ونفخ في ترسيخ صورته هذه حتى في أذهان العوام من خلال تجييش أجهزة إعلامية جبارة تعز من تشاء وترفع قدره وإن لم يكن مذكورًا، وكأنها إله هذا العصر. فرِح هذا المسكين بصورته الجديدة ووقع في الفخ، في حين أنه كان بمقدوره أن ينخرط في مفاوضات جادة وانتهاج سياسة متوازنة مع روسيا تضمن طمأنتها إزاء أطماع حلف الناتو، وكان من الممكن حتى بعد اندلاع الحرب أن يرتضي باقتطاع جزء من القطاع الشرقي لأوكرانيا لتجنب ويلات الحرب (باعتبار ذلك حلًا لإنهاء الحرب كما لاحظ السياسي العتيد هنري كيسنجر)؛ خاصةً إذا وضعنا في الاعتبار أن هذا الجزء يتحدث الروسية وأنه أكثر انتماءً لروسيا؛ وإذا وضعنا في الاعتبار قبل ذلك أن أوكرانيا نفسها كانت جزءًا من الإمبراطورية السوفييتية. وكان بمقدور هذا الرجل -إذا أحسن التفكير- أن يفهم أن تأسي إعلام الغرب على حال الشعب الأوكراني، ليس من أجل أوكرانيا وعيون شعبها الزرقاء؛ لأن هذا الإعلام نفسه هو الذي يغض الطرف عن المجازر التي ترتكب بحق مسلمي الإيجور في الصين، ومسلمي الروهينجا في بورما، ومسلمي الهند، والشعب الفلسطيني!

نعود إلى المسألة التي بدأنا بها، وهي أن خطر اندلاع حرب عالمية ثالثة يمكن أن يهدد بفناء البشرية؛ إذا ما أفضت إلى استخدام السلاح النووي. لم يستخدم هذا السلاح إلا مرة واحدة حينما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناجازاكي في اليابان لحسم الحرب لصالح الحلفاء، تلك اليابان التي تستقطبها الآن الولايات المتحدة! ومع ذلك فإن استخدام السلاح النووي في الحرب العالمية الثانية كان بمثابة ضربة محدودة موجهة لغرض محدد. ولكن الحال الآن مختلف؛ لأن السلاح النووي لم يعد مقصورًا على دولة بعينها، بل تمتلكه كثير من الدول، وهذا هو سبب خشية الناتو من كوريا الشمالية، ومن إمكانية تطوير هذا السلاح في إيران باعتباره تهديدًا لإسرائيل حليف الغرب وذراعه في منطقة الشرق الأوسط. يخشى أطراف القوى العظمى من التورط في استخدام هذا السلاح، لا على المستوى التكتيكي الذي يمكن أن يظل تأثيره المدمر محدودًا، وإنما على المستوى الاستراتيجي الذي سيكون تأثيره المدمر شاملًا بحيث يمتد إلى الدول التي يمكن أن تستخدمه. والواقع أن هناك تفاوتًا في القوى العسكرية بين أمريكا وروسيا: فأمريكا تتفوق بوضوح على روسيا في إجمالي القوات الجوية، بينما تتفوق عليها روسيا والصين في القوات البحرية (باستثناء حاملات الطائرات) وقوات المدفعية والدبابات وسلاح المُشاة. ولكن كل هذا لا يهم إذا كنا بصدد إمكانية استخدام السلاح النووي الذي تتفوق فيه روسيا بوضوح؛ إذ تمتلك 7000 رأس نوويّ، بينما تمتلك الولايات المتحدة 3750 رأسًا منها (بحسب موقع GFP). وهذا الفارق لا يهم أيضًا؛ إذ إن استخدام القليل من هذا السلاح النووي كفيل بتدمير معظم الوجود البشري. هذا ما يخاف منه الظالم والمظلوم؛ لأنه يمكن أن يحدث في لحظة من الجنون.

يظل الغرب بالنسبة إلى عموم البشر بمثابة جنة عدن، فالناس في شتى بقاع الأرض- ولا أستثني نفسي منهم- يبدون إعجابًا كبيرًا بنظم الحياة في الغرب، خاصة في حياة الغرب الأمريكي التي طالما كان يُروج لها باعتبارها الحلم الأمريكي. الحياة في الغرب تدعو إلى الإعجاب بما يسوده من نظام ديمقراطي يُعلي من شأن حرية الفرد واحترامه، وتطبيق النظام الصارم الذي يراعي القانون وتحقيق العدالة، بخلاف ما هو سائد في الكتلة الشرقية من نظم شمولية. ولكننا حينما نتأمل الأمر عن قرب نلاحظ حالة من الازدواجية في سياسات الغرب: مراعاة القانون والعدالة فيما يتعلق بشعوبهم، وانتهاك القانون والعدالة فيما يتعلق بغيرهم من الشعوب. لا أعرف تفسيرًا لذلك سوى أن حملات الغرب الاستعمارية قد توارت، ولكنه لم يتحرر من العقلية الاستعمارية.