يسجل التحول الموضوعي حضورا مهما ومناخا خصبا من العطاء؛ كلما استطاع الأفراد في المجتمع التخلص من مجموعة من الترسبات التقليدية، ومن المحاكاة، ومن التحرر من مناخات الوهم، ومن إلصاق التقدم المنسوب إلى العودة إلى الماضي فقط، "من ليس له ماضي؛ ليس له حاضر" فالماضي ليس له حاضر إطلاقا، هو ماض انتهت دورة فترته الزمنية، وهنا يتشكل حاضر جديد بمقومات جديدة، وإلا لأصبح التكرار سيد الموقف، ولما اكتسب الإنسان هذا البعد المعرفي بكل تفاصيله، وتشعباته، ووسائله ومقوماته، نعم؛ يحظى الماضي بالكثير من التقدير، والاحترام، ولكن يبقى في زاويته فقط للعبرة والعظة؛ وهنا أشير أكثر إلى الجهد المبذول من قبل الإنسان؛ ليس إلا؛ حتى لا تخضع هذه الصورة لتأويلات غير مقصودة لذاتها، فهنا جميعنا أمام حالة من التحول، والتغير، والتبدل، وهذا قانون الحياة الصافي بلا رتوش، وبالتالي فلهذا التحول والتغير والتبدل أثر على مناخات الحياة المختلفة، وأثر على فكر الإنسان الذي لم ينم في يوم من الأيام، فكلما أنجز مرحلة مهمة من مراحل استحقاقات الحياة الحاضرة، يكون هناك دافعا آخر ملتحما لرفد الحياة بتغير آخر، حيث يقاس التحول الموضوعي على الوعي الجمعي، وهو الوعي المتشكل من مجموعة المحفزات الذاهبة إلى إحداث تصدعات في البناءات القديمة، واستحداثها ببناءات جديدة قادرة على إيجاد صور جديدة للحياة الحاضرة، وهذا هو السياق العام الذي تنبني عليه التراكمات المعرفية، على طول خط سير الإنسانية، إلا إذا اصطدم بمؤثر قوي من شأنه أن يبطِّئ من علميات السير هذه، أو يوجد فيها نتوءات "سرطانية" من شأنها أن تشوه الصورة العامة للمسيرة الإنسانية، في معرفتها وفي تقدمها، وفي تحضرها، وأكثر السرطانات الشائعة؛ على طول تاريخ المسيرة البشرية؛ هي سرطانات الاحتلال، والعدوان، التي تفرزها القوى الاستعمارية، أما بخلاف ذلك تشهد الحياة العامة مجموعة من التحولات الموضوعية والمتضمنة تحولات في الفكر، وتحولات في القيم، وتحولات في الثقافة، وتحولات في الرؤى المختلفة، وهي تحولات توصف بالموضوعية، لأن أثرها مباشرا، ومتحررا من قيود كثيرة متشابكة، حيث يكون الصالح العام هو الحاضر بقوة في مجموع هذه التحولات، وبالتالي إذا لوحظ أن الصالح العام مغيبا في مجموع هذه التحولات، فإن التسمية تنتفي عنها من أنها تحولات موضوعية، وتصبح حالها كحال أي تغير يمكن أن ينزوي؛ أو يشار إليه على أنه ينتصر لهوية فرعية خاصة فقط، وهذا لا يحسب على المجموع العام، وفي ذلك – إن حدث – خطورة كبيرة على الأمن القومي.
ولذلك فتجاوز الهويات الفرعية، وتجاوز الصور النمطية؛ والقرارات الارتجالية، ومفهوم المسؤول الـ "سوبر" وتحييد الآراء الشخصية، ومختلف التموضعات الاجتماعية التي تقدم الوجاهة على الكفاءة؛ من النتائج المهمة التي يحققها التحول الموضوعي، ومعنى ذلك أن التحول الموضوعي تحول نهضوي بدرجة امتياز، وهناك تجارب دول كثيرة حققت هذا المستوى من التحولات الموضوعية، والأقرب إلى ذلك مثال دول الأسيان التي تسعى حثيثا لأن تسجل نفسها كمنافس شرس في محيط القوى العظمى بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، على الرغم من أن بعضها يتسلسل من موروث شديد التعقيد، تلعب فيه الهويات الفرعية دورا مؤثرا إلى أبعد الحدود، ومع ذلك استطاع بعضها حلحلت مجمل التشابكات التي تحد من حركة تحولاتها الموضوعية، وتصبح فاعلة بقوة على المستوى الدولي، وهذا ما يحسب لها هذا التحرر من مناخات الهويات الفرعية، والانتصار للمجموع، مع أن تكلفة المجموع باهظة الثمن، لأنها تذهب إلى الارتقاء، ولكن حتى الانتصار للهويات الفرعية أيضا له تكلفته الثقيلة، لأنه قد يوقعها في التغريب عندما لا يكون هناك شيء من الوسطية؛ حيث الانسلاخ المطلق.
تأتي الذاتية أحد ألد الأعداء للموضوعية، لأن الذاتية تنحاز إلى الخاص، والخاص؛ كما هو معلوم يخاطب عاطفتنا ومشاعرنا، وكل ما هو يسيل لعابنا، وما عدا ذلك فـ "اليذهب إلى الشيطان" حسب التعبير الدارج؛ وبالتالي فالخروج عن الذاتية ليس أمر سهلا، والالتحام بالموضوعية؛ أيضا؛ ليس أمرا سهلا، فأين يجب أن نضع أنفسنا عندها؟ هي موازنة ليست يسيرة على الفرد في المجموع، لأن المجموعة الغالبة؛ في العادة، تذهب إلى الانحياز على الخاص، ومن هنا تواجه مشروعات التنمية الكثير من العراقيل بسبب هذه الذاتية، ومن هنا تقام جلسات المحاكمات، ومن هنا تشتعل الحروب، ويقتل عشرات الآلاف، ويشرد مثلهم، وترمل النساء، وييتم الأطفال، فالإنسان مفطور على الذاتية، وبالتالي فالتخلص من الذاتية ليس أمرا يسيرا؛ إلا من استطاع أن يَسُلَّ نفسه من ركام الذات، وهو ركام متراكم منذ البدايات الأولى لعمر النشأة، فالطفل؛ كنموذج لهذه الفطرية؛ ينتصر لألعابه، بل قد تدفعه فطرته الذاتية لأن يستولي على ألعاب من حوله، فهذه الممارسة لن تكون مدفوعة بفعل عقل يفكر بالاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب، بقدر ما تذهب به الفطرة لأن يمارس ذلك السطو دون أن يعي إن كان ما يقوم به صوابا أو خطأً، وبالتالي فالموضوعية، من مهامها هو التحرر من هذه الذاتية، حتى تقدر أن تمارس دورها بكل أريحية دون أدنى تجاذبات ذاتية تحد من هذا الفعل، أو هذا الإقدام،
هل هناك نوع من التضاد بين هوية النص والتحول الموضوعي؟ في تقديري الشخصي أن النص يأتي لترويض النفوس على الموضوعية، لأن النفس كما أسلفنا تنتصر إلى الذاتية، وبالتالي لن يخرجها من هذا التخندق إلا النص، مع أنه حتى النص يحتاج إلى أرضية صلبة من القناعة الذاتية حتى يقبل، وإلا لما عايشنا ممارسات الخروج عن النص، أو التحايل عليه، بل تجاوز الأمر حتى على النص المقدس الذي هو من عند الله، فلم تتروض النفس بالإذعان المطلق لهذا النص، مع أن عقوبته شديدة، ومؤلمة، وتكلف الإنسان حياته الآخروية كلها، كما تؤكد النصوص القرآنية على ذلك، ولكن مع ذلك فهناك إضاءات مشرقة في هذا الجانب، وهناك نفوس تؤمن إيمانا قاطعا بأن النص جاء لينظم حياتها، ويعفيها عن كثير من المشاق في هذه الحياة، وأن هذا النص جاء لحمايتها من التردي في أوحال الرذيلة، أو الوقوع في الأخطاء التي تكلفها حياتها؛ في بعض الأحيان؛ فمن يحكم عليه بالإعدام، أو السجن المؤبد، هو نتيجة طبيعية لإخلاله بالنص، وبالتالي فمن يحتكم على النص، فإن هذا النص يحيده ويؤصله تأصيلا موضوعيا في مختلف أنشطته في هذه الحياة، فيعيش مرتاح الضمير، هانئ النفس، مستقر الأحوال.
يمكن القول أيضا؛ أن الهوية الموضوعية أو التحول الموضوعي يسهمان في إرباك مجموعة من القيم والموروثات، والأيديولوجيات، والأحكام المسبقة عند مجتمع معين ونقله من حالته الساكنة إلى حالته المتحركة النابضة بالحياة والتغيير، وذلك لأن القيم من صفاتها الثبات، مما يؤدي إلى ترسيخ الصور النمطية، والحياة بطبيعتها لا تميل كثيرا إلى النمطية، فحالتها مستنفرة بصورة دائمة، وذلك لما تواجهه من مستجدات بفعل حركة البشر فيها، كما أن الموروثات تميل أكثر إلى الذاتية، وإلى التراتبية الاجتماعية، وترى في حالة السكون التي تعيشها الآمان للبقاء والاستمرار لكثير من الأشياء، وفي الوقت نفسه أن التحولات بشكل عام، ومنها التحولات الموضوعية، تحتاج إلى شيء من الحركة والتبدل والتغير، والحياد في آن واحد، ولذلك قد توقع ممارسة بعض القيم الناس في مأزق المغالطة مع الموضوعية، حيث تمارس بصورة مغمضة العينين على أنها حقيقة مسلم بها، مع ما يرافق ذلك من الوقوع؛ أحيانا؛ في ظلم الآخر، نعم قد يواجه التصرف الموضوعي؛ سواء القائم به فرد، أو مجموعة، أو مؤسسة، بشيء من النقد، وربما عدم القبول، عندما يتصادم مع مجموعة من مفاهيم القيم والموروثات، والأيديولوجيات، والأحكام المسبقة، وقد يرى في ذلك تصرفا غير مقبول البتة، لأنه يخالف مع ما اعتاد عليه الناس في مجتمع ما، وهذه من المواقف المتوقعة، وعلى القائم بالموضوعية أن ينتصر لموضوعيته ولحياديته، ولا يستسلم لمجموعة هذه التجاذبات المنتصرة جلها للذاتية، وخاصة في الموضوعات المتعلقة بالأوطان، فالأوطان تراهن كثيرا على التحرر من متعلقات الذات، لأنها تنتصر للمجموع.
* أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني
ولذلك فتجاوز الهويات الفرعية، وتجاوز الصور النمطية؛ والقرارات الارتجالية، ومفهوم المسؤول الـ "سوبر" وتحييد الآراء الشخصية، ومختلف التموضعات الاجتماعية التي تقدم الوجاهة على الكفاءة؛ من النتائج المهمة التي يحققها التحول الموضوعي، ومعنى ذلك أن التحول الموضوعي تحول نهضوي بدرجة امتياز، وهناك تجارب دول كثيرة حققت هذا المستوى من التحولات الموضوعية، والأقرب إلى ذلك مثال دول الأسيان التي تسعى حثيثا لأن تسجل نفسها كمنافس شرس في محيط القوى العظمى بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، على الرغم من أن بعضها يتسلسل من موروث شديد التعقيد، تلعب فيه الهويات الفرعية دورا مؤثرا إلى أبعد الحدود، ومع ذلك استطاع بعضها حلحلت مجمل التشابكات التي تحد من حركة تحولاتها الموضوعية، وتصبح فاعلة بقوة على المستوى الدولي، وهذا ما يحسب لها هذا التحرر من مناخات الهويات الفرعية، والانتصار للمجموع، مع أن تكلفة المجموع باهظة الثمن، لأنها تذهب إلى الارتقاء، ولكن حتى الانتصار للهويات الفرعية أيضا له تكلفته الثقيلة، لأنه قد يوقعها في التغريب عندما لا يكون هناك شيء من الوسطية؛ حيث الانسلاخ المطلق.
تأتي الذاتية أحد ألد الأعداء للموضوعية، لأن الذاتية تنحاز إلى الخاص، والخاص؛ كما هو معلوم يخاطب عاطفتنا ومشاعرنا، وكل ما هو يسيل لعابنا، وما عدا ذلك فـ "اليذهب إلى الشيطان" حسب التعبير الدارج؛ وبالتالي فالخروج عن الذاتية ليس أمر سهلا، والالتحام بالموضوعية؛ أيضا؛ ليس أمرا سهلا، فأين يجب أن نضع أنفسنا عندها؟ هي موازنة ليست يسيرة على الفرد في المجموع، لأن المجموعة الغالبة؛ في العادة، تذهب إلى الانحياز على الخاص، ومن هنا تواجه مشروعات التنمية الكثير من العراقيل بسبب هذه الذاتية، ومن هنا تقام جلسات المحاكمات، ومن هنا تشتعل الحروب، ويقتل عشرات الآلاف، ويشرد مثلهم، وترمل النساء، وييتم الأطفال، فالإنسان مفطور على الذاتية، وبالتالي فالتخلص من الذاتية ليس أمرا يسيرا؛ إلا من استطاع أن يَسُلَّ نفسه من ركام الذات، وهو ركام متراكم منذ البدايات الأولى لعمر النشأة، فالطفل؛ كنموذج لهذه الفطرية؛ ينتصر لألعابه، بل قد تدفعه فطرته الذاتية لأن يستولي على ألعاب من حوله، فهذه الممارسة لن تكون مدفوعة بفعل عقل يفكر بالاستحواذ على أكبر قدر ممكن من المكاسب، بقدر ما تذهب به الفطرة لأن يمارس ذلك السطو دون أن يعي إن كان ما يقوم به صوابا أو خطأً، وبالتالي فالموضوعية، من مهامها هو التحرر من هذه الذاتية، حتى تقدر أن تمارس دورها بكل أريحية دون أدنى تجاذبات ذاتية تحد من هذا الفعل، أو هذا الإقدام،
هل هناك نوع من التضاد بين هوية النص والتحول الموضوعي؟ في تقديري الشخصي أن النص يأتي لترويض النفوس على الموضوعية، لأن النفس كما أسلفنا تنتصر إلى الذاتية، وبالتالي لن يخرجها من هذا التخندق إلا النص، مع أنه حتى النص يحتاج إلى أرضية صلبة من القناعة الذاتية حتى يقبل، وإلا لما عايشنا ممارسات الخروج عن النص، أو التحايل عليه، بل تجاوز الأمر حتى على النص المقدس الذي هو من عند الله، فلم تتروض النفس بالإذعان المطلق لهذا النص، مع أن عقوبته شديدة، ومؤلمة، وتكلف الإنسان حياته الآخروية كلها، كما تؤكد النصوص القرآنية على ذلك، ولكن مع ذلك فهناك إضاءات مشرقة في هذا الجانب، وهناك نفوس تؤمن إيمانا قاطعا بأن النص جاء لينظم حياتها، ويعفيها عن كثير من المشاق في هذه الحياة، وأن هذا النص جاء لحمايتها من التردي في أوحال الرذيلة، أو الوقوع في الأخطاء التي تكلفها حياتها؛ في بعض الأحيان؛ فمن يحكم عليه بالإعدام، أو السجن المؤبد، هو نتيجة طبيعية لإخلاله بالنص، وبالتالي فمن يحتكم على النص، فإن هذا النص يحيده ويؤصله تأصيلا موضوعيا في مختلف أنشطته في هذه الحياة، فيعيش مرتاح الضمير، هانئ النفس، مستقر الأحوال.
يمكن القول أيضا؛ أن الهوية الموضوعية أو التحول الموضوعي يسهمان في إرباك مجموعة من القيم والموروثات، والأيديولوجيات، والأحكام المسبقة عند مجتمع معين ونقله من حالته الساكنة إلى حالته المتحركة النابضة بالحياة والتغيير، وذلك لأن القيم من صفاتها الثبات، مما يؤدي إلى ترسيخ الصور النمطية، والحياة بطبيعتها لا تميل كثيرا إلى النمطية، فحالتها مستنفرة بصورة دائمة، وذلك لما تواجهه من مستجدات بفعل حركة البشر فيها، كما أن الموروثات تميل أكثر إلى الذاتية، وإلى التراتبية الاجتماعية، وترى في حالة السكون التي تعيشها الآمان للبقاء والاستمرار لكثير من الأشياء، وفي الوقت نفسه أن التحولات بشكل عام، ومنها التحولات الموضوعية، تحتاج إلى شيء من الحركة والتبدل والتغير، والحياد في آن واحد، ولذلك قد توقع ممارسة بعض القيم الناس في مأزق المغالطة مع الموضوعية، حيث تمارس بصورة مغمضة العينين على أنها حقيقة مسلم بها، مع ما يرافق ذلك من الوقوع؛ أحيانا؛ في ظلم الآخر، نعم قد يواجه التصرف الموضوعي؛ سواء القائم به فرد، أو مجموعة، أو مؤسسة، بشيء من النقد، وربما عدم القبول، عندما يتصادم مع مجموعة من مفاهيم القيم والموروثات، والأيديولوجيات، والأحكام المسبقة، وقد يرى في ذلك تصرفا غير مقبول البتة، لأنه يخالف مع ما اعتاد عليه الناس في مجتمع ما، وهذه من المواقف المتوقعة، وعلى القائم بالموضوعية أن ينتصر لموضوعيته ولحياديته، ولا يستسلم لمجموعة هذه التجاذبات المنتصرة جلها للذاتية، وخاصة في الموضوعات المتعلقة بالأوطان، فالأوطان تراهن كثيرا على التحرر من متعلقات الذات، لأنها تنتصر للمجموع.
* أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني