دخلتُ قبل أيام في أعقم جدال في تاريخ الجدالات العقيمة. قال صديقي إن هذا هو أحر صيف مر على ألمانيا منذ بداية رصد درجات الحرارة عام واحد وخمسين. قلتُ مستفهمة - على نحو نيردي (أعترف بذلك)، لأن كلينا مهتم بعلوم البيانات-: «سنة واحد وخمسين! ما أعرفه أن تجميع للبيانات بدأ في القرن السابع عشر مع رصد وتحليل وفيات الطاعون في لندن». قال: «لا. أعني 1951». قلت إن هذا معقول أكثر لأن مفهوم درجة الحرارة على الأغلب لم يكن موجودا وقتها. قال: «ماذا تعنين بأنه لم يكن موجودا. بما أن الناس كانت قادرة على القول إن اليوم هو أحر من الأمس أو أبرد منه فهذا يعني أن المفهوم موجود». قلتُ إن المصطلح لم يكن موجودا. قال: «إن المفهوم يمكنه أن يوجد حرا من التعبير اللغوي عنه». بقينا نتجادل إلى أن وضع وصول القطار - ولحسن الحظ - حدا لذلك. أود في هذا المقال التحقيق في صحة هذه المقولة «من غير المرجح أن يكون مفهوم درجات الحرارة موجودا في العام 51 ميلادي». في الجزء الأول، سنستكشف معا العلاقة بين المفهوم واللغة. في الجزء الثاني، سنسكتشف الصلة بين المقاييس النسبية والمعيارية. متى ما اتضح هذان الجزءان من الموضوع، سيكون الحكم على صحة المقولة ممكنٌ أخيرًا.

أولا: علينا تعريف المفهوم، واستشارة الأدبيات حول طبيعة المفاهيم، وما إذا كان بالإمكان أن توجد المفاهيم والأفكار بدون اللغة.

نعني بالمفاهيم في هذا السياق، التمثيلات الذهنية للعناصر الملموسة أو غير الملموسة. يلتفت العلماء غالبا - عند إجراء دراساتهم التجريبية حول الموضوع - إلى الرضع (باعتبارهم كائنات بشرية فطرية غير متأثرة بعد بما تُعلَّم) أو إلى الحيوانات (باعتبار أن قرابتها منا قد تحمل بعض المفاتيح، وتنير لنا جوانب حول طبيعتنا). تُشير هذه الدراسات إلى أن للطيور -مثلا- تمثيلات ذهنية تُعينها على التنقل والهجرة. نقول تمثيل representation عوضا عن تصور لأنها عند ذلك قد توحي بوجود عناصر بصرية بينما التمثيلات قد تشمل كلا العناصر اللغوية والبصرية أو غير ذلك. مع ذلك يُصر البعض على أهمية عدم الخلط بين التمثيلات والمفاهيم. وبهذا، حتى وإن كشف سلوك الحيوانات أو الأطفال عن ما يبدو أنه تمثيل للعناصر فهذا لا يعني بالضرورة قدرة على التشكيل والتعامل مع المفاهيم.

يرى بعض الفلاسفة وعلماء الإدراك مثل ستيفن پينكر أن المفاهيم سابقة للغة وأنها توجد بمعزل عنها، وما اللغة الطبيعية إلا وسيلة لنقل تلك الأفكار والمفاهيم. يُدعم هذا الرأي بحقيقة أن اللغة يتم تعلمها. كما أن هناك مفاهيم يتم ابتكارها أولا، ثم تُسمى لاحقا. يُدعم هذا الرأي أيضا بتجاربنا الشخصية حين يبدو أن اللغة لا تسعفنا في التواصل مع الآخر. في المقابل، يرى آخرون أن التفكير وبالتالي المفاهيم توجد عبر اللغة، أو -على الأقل- أن المفاهيم تُعزَز بفعل اللغة. هذا مدعوم بواقع أن المرء عندما يفكر فهو ينخرط في عملية تُشبه التحدث مع النفس.

أرى شخصيا أن نقاش المفاهيم واللغة يخلو -دون مبرر واضح- من التمثيلات البصرية، ويركز على اللغة وحدها. جرب أن تسأل الأصدقاء عن ما يتمثل في أذهانهم حين تلقي عليهم بمفاهيم مثل: الوقت، الطعام، الصداقة. في حين أنها تتمثل ككلمات مجردة لدى البعض، تتمثل هذه الأشياء كصور لدى آخرين.

الخلاصة، وحتى نحكم في الموضوع محل النقاش، فسنفترض أن المفاهيم يمكن أن توجد خارج التعبير الدقيق عن الموضوع. ما دام بالإمكان وصف الظاهرة عبر اللغة، فليس مهما -في موضوعنا هذا تحديدا- أن يكون المصطلح قد وُجد.

ثانيا: نحن معنيون بالدرجة هنا. كيف يختلف القياس النسبي (اليوم أبرد من الأمس) عن القياس المعياري (درجة الحرارة اليوم 24 درجة سيليزية).

يُرشدني بحث سريع على الإنترنت إلى أنه يُعتقد أن الطبيب والفيلسوف جالينوس (129 - 216م) قدم في العام 150م فكرة مقياس للسخونة والبرودة بأربع درجات في كل اتجاه. أي قبل قرون (حوالي 17 قرنا) من ابتكار مقاييس الحرارة كما نعرفها اليوم. هذا يضاعف احتمال أن يكون مفهوم قياس درجات الحرارة موجودا قبلها بمئة عام. في الواقع، إن السنة التي طور فيها المقياس ليس محل الجدل، وإنما إمكانية وجود مفهوم قياس شيء محدد قبل وجود الأدوات التي تقيسه والمصطلح الذي يُشير إليه.

مثلا، تتغير أمزجتنا بشكل لحظي. أستطيع القول أن مزاجي هذا المساء أفضل مما كان عليه هذا الصباح. أو أنه في هذه المرحلة مجملا أفضل مما كان عليه قبل ثلاثة أشهر. لو حدث أن ابتكر مقياس كمي لدرجات المزاج في القرن القادم -مهما تبدو فكرة شاطحة اليوم-، سيصح لهم قول إن مفهوم درجات المزاج لم تكن موجودة في العام 2022. لأننا اليوم لا نعرف إن كان بالإمكان الإتيان بشيء مثل هذا، أو كيف يُمكن تنفيذه إن كان ابتكاره ممكنا. يصح هذا كما يصح القول إن مفاهيم مقاييس الذكاء لم تكن موجودة قبل العام 1905. لكنني -مع ذلك- حين أقول «مقياس درجات المزاج» أيا تكن الأدوات التي سيستخدمها أحفادنا لابتكاره فأنتم تعرفون عما أتحدث. كذلك، لا يحتاج المرء لمعرفة أي شيء عن الزئبق، أو عن مقاييس الحرارة، ليعرف ما تُشير إليه درجات الحرارة.

لكن، لنفترض أنه قبل تطوير مقاييس الحرارة لم يوجد سوى إشارة الناس إلى الأشياء باعتبارها حارة أو باردة، أو إلى يوم ما (أو أي شيء آخر في الحقيقة) باعتباره أبرد أو أسخن، هل هذه القدرة الحدسية للقياس النسبي كافية للقول أنهم امتلكوا مفهوم درجات الحرارة؟ باختصار: نعم. فللمفاهيم طبيعة تجريدية، وبهذا ليس على المقاييس أن تتطابق تماما لنخلص إلى أنها تنتمي للمفهوم ذاته.

هكذا إذا يمكن حسم الجدال في هذه المسألة الدقيقة، إلا أن السؤال الأكبر حول إمكانية وجود الأفكار والمفاهيم دون اللغة سيظل قائما.