ترجمة: أحمد شافعي -
ميونيخ: كان الأسبوع الماضي أسبوعا مثيرا في أوروبا بالحديث إلى خبراء الأمن الوطني، والمسؤولين وكبار التنفيذيين في الشركات حول أوكرانيا. إذ أرغمت أوكرانيا وحلفاؤها الروس للتو على انسحاب فوضوي من قطعة كبيرة من الأرض، في حين بدا أن رئيسي الصين والهند قد أوضحا لبوتين أن ما تسببت فيه حربه من تضخم في الغذاء والطاقة يضر بشعبيهما البالغين من العدد 2.7 مليار نسمة. وفوق ذلك كله، قالت إحدى أيقونات الموسيقى الروسية الجماهيرية لـ3.4 مليون من متابعيها على إنستجرام إن الحرب «تحول بلدهم إلى بلد منبوذ وتتسبب في تدهور حياة مواطنينا».
باختصار، هو أسوأ أسبوع منذ بدء الحرب على لأوكرانيا. ومع ذلك... ربما كنت أقضي وقتي مع النوع الخطأ من الأشخاص، فقد استشعرت تيارا خفيا معينا من القلق في كثير من حواراتي مع حلفاء أوكرانيا الأوروبيين.
لقد تعلمت منذ زمن بعيد بعملي مراسلا أجنبيا أن الخبر في بعض الأحيان يكون الجلبة، يكون في ما يقال وما يصاح به، ولكنه في بعض الأحيان يكون في الصمت، في ما لا يقال بالمرة. وتأويلي للذي لم يقل خلال الأسبوع الماضي هو على النحو التالي: نعم، أمر عظيم أن أوكرانيا تدفع الروس إلى التراجع بعض الشيء، لكن هل بوسعك أن تجيب عن سؤالي المطروح منذ بدء الصراع: كيف لهذه الحرب أن تنتهي بنتيجة مستقرة؟ لم نزل لا نعرف. وعندما بحثت هذا السؤال خلال محاوراتي، تبينت ثلاثة نتاجات ممكنة، بعضها جديد تماما، وبعضها مألوف، لكن لها جميعا آثار جانبية معقدة ولا يمكن التنبؤ بها:
النتاج الأول هو النصر الأوكراني التام، وينطوي على مخاطرة أن يقوم بوتين بأمر جنوني لحظة أن تواجهه الهزيمة وجها لوجه.
النتاج الثاني هو صفقة مع بوتين تضمن هدنة وتوقف الدمار، لكنها تنطوي على مخاطرة تقسيم الحلفاء الغربيين وإثارة غضب الكثير من الأوكرانيين.
النتاج الثالث هو صفقة أقل قذارة، نرجع بموجبها إلى الخطوط التي كان الجميع عندها قبل غزو بوتين في فبراير. وقد تبدو أوكرانيا مستعدة لقبول ذلك، بل ويحتمل أن يكون الشعب الروسي نفسه كذلك، لكن سوف تتحتم الإطاحة ببوتين أولا، لأنه لن يرضخ أبدا للمعنى المحتوم الذي سوف ينطوي عليه ذلك وهو أن حربه والعدم سواء.
التباين عميق بين هذه النتاجات، وقليل منا هم الذين لن يتأثروا بالطريقة التي تمضي إليها الأمور. فأنت قد لا تكون مهتما بحرب أوكرانيا، ولكن حرب أوكرانيا سوف تكون مهتمة بك، وبالطاقة التي تستعملها، وبأسعار الغذاء، وأهم من ذلك كله بإنسانيتك، وذلك ما اكتشفه المحايدون أنفسهم أي الصين والهند.
فلنتعمق إذن في جميع هذه النهايات المحتملة.
النتاج الأول: لا يتوقع أحد أن يكون الجيش الأوكراني قادرا فورا على متابعة المكاسب العسكرية الكبيرة التي تحققت على مدار الأسبوعين الماضيين فيكتسح بقية الجيش الروسي ويدفعه إلى الجهة الأخرى من الحدود. لكنني للمرة الأولى أسمع الناس يتساءلون: وماذا لو انهار الجيش الروسي فعليا؟
من المؤكد أن عددا غير بالغ القلة من الجنود الروس، ومن الأوكرانيين الناطقين بالروسية الذين اصطفوا معهم، ظانين أنهم سوف ينتصرون ويبقون إلى الأبد، يطرحون على أنفسهم السؤال الذي طرحه جون كيري بشأن حرب فييتنام: «كيف تطلب من رجل أن يضحي بنفسه من أجل خطأ؟»
تمهلوا للحظة. لو أن أوكرانيا فعلا كانت قد أصبحت ـ مثلما زعم بوتين ـ دولة يقودها «نازيون» ورأس حربة لخطة الناتو للتقدم شرقا باتجاه الأرض الروسية، كيف لم يتسن لبوتين أن يطلب من الشعب الروسي أن يحتشد من أجل هذا القتال؟ لو أن القضية كانت عادلة والحرب ضرورة، فلماذا كان على بوتين أن يتوقع صمت الطبقة الوسطى في موسكو ولينينجراد؟
لكن الناس يتكلمون، وكل جندي روسي أو أوكراني ناطق بالروسية ممن وقف مع بوتين لا بد أنه يفكر: «هل أبقى؟ أم أهرب؟ ومن سيحميني عند انكسار الجبهة؟» هذا تحالف شديد الضعف معرض للانهيار المتتالي، الذي يبدأ بطيئا ثم يتسارع. وسترون.
لماذا؟ لأن بوتين قد ألمح بالفعل مرات عديدة إلى أنه عازم على النظر في استعمال سلاح نووي إذا ما بدأت أوكرانيا وحلفاؤها في التغلب على قواته. ومؤكد أنني أرجو لو أن لدى المخابرات المركزية الأمريكية خطة سرية لقطع سلسلة أوامر بوتين بحيث لا يضغط أحد الزر.
النتاج 2: لا أستطيع أن أتخيل الرئيس فلوديمير زيلينسكي يقبل هدنة أو ما هو قريب من ذلك في الوقت الراهن، في ظل أن لقواته الآن زخما كبيرا للغاية وأنه ملتزم باسترداد كل شبر من الأرض الأوكرانية بما في ذلك القرم. لكن استبقوا هذا النتاج في أذهانكم عند حلول الشتاء ورفض بوتين أن يبيع الغاز الطبيعي لأوروبا بما يرفع أسعار الطاقة ارتفاعا كبيرا يرغم معظم المصانع على الإغلاق ويدفع الفقراء من الأوربيين على المفاضلة ما بين التدفئة والطعام.
برغم أن ذلك قد يعني أن مكتسبات حرب بوتين قصرت عن أهدافها، فقد يبدي اهتماما باقتناص هذه النتيجة، ليكون لديه على الأقل ما يستعرضه.
كثير من القادة الأوربيين سوف يتلهفون على الصفقة، حتى وإن لم يقولوا ذلك بأعلى صوت. وإليكم ما قاله رجل دولة أوروبي متقاعد ـ مشترطا عدم الإفصاح عن هويته ـ في منتدى للتجارة والسياسة تسنى لي حضوره.
قال إن الهدف من حرب أوكرانيا هو النصر. وهدف الاتحاد الأوروبي مختلف قليلا. فهو إحلال السلام، وهذا له ثمن، وسيكون بعض قادة أوروبا مستعدين لدفع الثمن المناسب. قال إن الولايات المتحدة بعيدة، ولن يكون أسوأ الأمور بالنسبة لها أن تستمر الحرب لإضعاف روسيا والتيقن من أنها تفتقر إلى الطاقة اللازمة لأي مغامرات أخرى.
وأضاف أنه من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي أكثر اتحادا مما كان عليه قبل بدء الحرب. غير أن الأمور سوف تزداد صعوبة خلال الأشهر القليلة القادمة. وقال رجل الدولة السابق إن انقساما كبيرا سيحدث في الاتحاد الأوروبي-وسيزداد صعوبة أكثر فأكثر مع ازدياد الأهداف اختلافا على اختلاف. فحتى مع بقاء التصريحات العلنية على ما هي عليه، فإن الاتحاد الأوربي سينقسم حول كيفية التعامل مع الحرب، لا على السؤال الكبير المتعلق بما إذا كان بوتين على حق أو أن هناك تهديدا، وإنما على كيفية التعامل مع الوضع كله، وبخاصة حيثما تظهر ردود الفعل الشعبوية حينما ينال التوتر من الناس في الشتاء القادم.
سيبدأ بعض القادة الأوروبيين في التساؤل «هل من مخرج عبر المفاوضات؟». مؤكد أن البعض من قبيل دول البلطيق سوف تؤيد زيلينسكي مائة في المائة. ولكن غيرهم بالتأكيد لن يكترثوا بالتجمد في دونيتسك ولوهانسك.
ومثلما قال لي مايكل ماندلباوم مؤلف كتاب «أربعة عصور من السياسة الخارجية الأمريكية» فإن بوتين قد يستشعر هذا ويقرر أن أفضل خطوة له هي أن ينقذ شذرة من الكرامة و«يفضح الانقسامات في الاتحاد الأوروبي بإعلان استعداده للتفاوض على وقف لإطلاق النار واستئناف شحن الغاز إلى الاتحاد الأوربي إذا أمكن التوصل إلى صفقة. لكن هذا سوف يقتضي بالتأكيد تزويد زيلينسكي بضمانات أمنية دائمة ملزمة، وربما عضوية كاملة في الناتو».
هذا النتاج صعب لأن من شأنه أن يعني أن بوتين أظهر أن بوسعه أن يغير حدود أوروبا بالقوة. لكنكم لو حسبتم أن بعض الأوروبيين (وبعضا أكبر من الجمهوريين في الكونجرس المؤمنين بشعار «أعيدوا عظمة أمريكا من جديد») لن ينتهزوا الفرصة ويضغطوا من أجلها إن امتدت الحرب إلى الشتاء فأنتم تخدعون أنفسكم.
كما أنني لن أستبعد تنويعة أخرى يمكن أن نسميها «النتاج الثاني ب»، وفيه يشتد بوتين من أجل ضمان عودته منفردا إلى الوطن وقد اصطحب معه قضمة من أوكرانيا، من خلال إلحاقه مزيدا من الضرر بالمدن الأوكرانية التي لا يسيطر عليها وبحمله برلمانه على تمرير تشريع يمكن المناطق الأوكرانية الأربع التي تحتلها روسيا من إجراء «استفتاءات» على الانضمام إلى روسيا. وخطوات هذا الأسبوع لإجراء استفتاءات يبدو أن لها هدفين: إيقاف الذعر في هذه المناطق بين الأوكرانيين المؤيدين لروسيا من التخلي عنهم، والإشارة إلى كييف وأمريكا والاتحاد الأوربي بما يعني أنه «لم يزل لدي الكثير من الصواريخ.
النتاج الثالث: وهو صفقة أقل صعوبة، لكنها مع الشعب الروسي، لا مع بوتين. وبموجب هذا السيناريو، يعرض الناتو والأوكرانيون وقفا لإطلاق النار على أساس خطوط 24 فبراير، حيث كانت القوات الروسية والأوكرانية متمركزة قبل غزو بوتين. تجتنب أوكرانيا المزيد من الدمار، ويتم التمسك بمبدأ عدم جواز تغيير الحدود بالقوة، لكن سيتعين على بوتين أن يعترف لشعبه قائلا «لقد فقدنا قرابة سبعين ألفا، والآلاف من الدبابات والمدرعات ومررنا بعقوبات اقتصادية رهيبة، ولم أحصل على شيء».
من المستحيل بالطبع أن نتخيله إذ يقول ذلك. لكن صفقة كهذه قد تصب في صالح الشعب الروسي. لذلك، في ما أتصور، ربما ينبغي أن تتعهد روسيا بأن تكون جارة جيدة مرة أخرى إذا ما رفع الغرب عقوباته. ويكون على زيلينسكي أن يتخلى عن حلمه باستعادة المناطق الأوكرانية التي استولت عليها روسيا سنة 2014، ويكون بوسع أوكرانيا أن تتعافى وتستأنف على الأقل عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وربما الناتو.
لقد كانت هذه الحرب دائما حرب بوتين. لم تكن قط حرب الشعب الروسي. وفي حين أن الشعب الروسي ربما يتصور أنه إلى الآن لم يدفع ثمنا كبيرا لصمته، فإنه مخطئ في ذلك. فعند توثيق كل تفاصيل الحرب الروسية في أوكرانيا وعرضها على العالم، لن يتمكن الشعب الروسي من الإفلات. وحينما يتوقف القتال ويطالب العالم بتحويل احتياطيات روسيا الأجنبية المجمدة حاليا في البنوك الغربية ـ وتبلغ قرابة 300 مليار دولار ـ إلى أوكرانيا لإعادة بناء المستشفيات والجسور والمدارس التي حطمها الجيش الروسي، سيبدأ الشعب الروسي في فهم أن هذه الحرب لم تكن مجانية.
ومرة أخرى، لست ساذجا. لو ذهب بوتين، وحل محله بطريقة ما القومي المناهض للفساد وللحرب أليكسي نفانالي، الذي يعتقد أن بوتين قد دس له السم ثم اعتقله سيظل التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع أوكرانيا أمرا صعب التفاوض والدوام.
وإنني واع أيضا بأن جزءا من هذا النتاج قد يؤدي إلى مجيء شخص سيئ، شخص من اليمين المتطرف ممن يرون أن بوتين لم يقاتل بالضراوة الكافية أو خذله جنرالاته. أو يحل محل بوتين فراغ في السلطة وفوضى في بلد فيه آلاف الرؤوس النووية.
لكن تأملوا ذلك النموذج الاستثنائي للاحتجاج الشعبي على بوتين الذي كتب عنه الأسبوع الماضي زملائي في نيويورك تامز ممن يقومون بتغطية روسيا، فهو ينبئكم بأن هذه الأيام استثنائية في ذلك البلد وقد تفضي إلى ردود أفعال استثنائية: «لقد أعلنت نجمة موسيقى البوب الروسية الشهيرة آلا بوجاتشيفا معارضتها لغزو أوكرانيا يوم الأحد، لتكون أهم المشاهير المعارضين للحرب في الوقت الذي تواجه فيه قوات الرئيس فلاديمير بوتين تحديات ميدانية متنامية ومتقطعة. كتبت بوجاتشيفا، البالغة من العمر 73 سنة، لمتابعيها في انستجرام البالغ عددهم 3.4 مليون، إن الروس يموتون في أوكرانيا لـ«أهداف وهمية».
كل هذا يسهم في تفسير التيار الخفي الذي استشعرته في أوروبا الأسبوع الماضي، ذلك الإحساس بأن العام الحالي قد ينتهي نهايات شديدة الاختلاف، فمنها ما هو أفضل، ومنها ما هو أسوأ، لكن ليس بينها ما هو يسير.
وكل هذا ولم نتكلم عن النتاج الرابع، أو الشيء الذي لا يمكن التنبؤ به.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة $
ميونيخ: كان الأسبوع الماضي أسبوعا مثيرا في أوروبا بالحديث إلى خبراء الأمن الوطني، والمسؤولين وكبار التنفيذيين في الشركات حول أوكرانيا. إذ أرغمت أوكرانيا وحلفاؤها الروس للتو على انسحاب فوضوي من قطعة كبيرة من الأرض، في حين بدا أن رئيسي الصين والهند قد أوضحا لبوتين أن ما تسببت فيه حربه من تضخم في الغذاء والطاقة يضر بشعبيهما البالغين من العدد 2.7 مليار نسمة. وفوق ذلك كله، قالت إحدى أيقونات الموسيقى الروسية الجماهيرية لـ3.4 مليون من متابعيها على إنستجرام إن الحرب «تحول بلدهم إلى بلد منبوذ وتتسبب في تدهور حياة مواطنينا».
باختصار، هو أسوأ أسبوع منذ بدء الحرب على لأوكرانيا. ومع ذلك... ربما كنت أقضي وقتي مع النوع الخطأ من الأشخاص، فقد استشعرت تيارا خفيا معينا من القلق في كثير من حواراتي مع حلفاء أوكرانيا الأوروبيين.
لقد تعلمت منذ زمن بعيد بعملي مراسلا أجنبيا أن الخبر في بعض الأحيان يكون الجلبة، يكون في ما يقال وما يصاح به، ولكنه في بعض الأحيان يكون في الصمت، في ما لا يقال بالمرة. وتأويلي للذي لم يقل خلال الأسبوع الماضي هو على النحو التالي: نعم، أمر عظيم أن أوكرانيا تدفع الروس إلى التراجع بعض الشيء، لكن هل بوسعك أن تجيب عن سؤالي المطروح منذ بدء الصراع: كيف لهذه الحرب أن تنتهي بنتيجة مستقرة؟ لم نزل لا نعرف. وعندما بحثت هذا السؤال خلال محاوراتي، تبينت ثلاثة نتاجات ممكنة، بعضها جديد تماما، وبعضها مألوف، لكن لها جميعا آثار جانبية معقدة ولا يمكن التنبؤ بها:
النتاج الأول هو النصر الأوكراني التام، وينطوي على مخاطرة أن يقوم بوتين بأمر جنوني لحظة أن تواجهه الهزيمة وجها لوجه.
النتاج الثاني هو صفقة مع بوتين تضمن هدنة وتوقف الدمار، لكنها تنطوي على مخاطرة تقسيم الحلفاء الغربيين وإثارة غضب الكثير من الأوكرانيين.
النتاج الثالث هو صفقة أقل قذارة، نرجع بموجبها إلى الخطوط التي كان الجميع عندها قبل غزو بوتين في فبراير. وقد تبدو أوكرانيا مستعدة لقبول ذلك، بل ويحتمل أن يكون الشعب الروسي نفسه كذلك، لكن سوف تتحتم الإطاحة ببوتين أولا، لأنه لن يرضخ أبدا للمعنى المحتوم الذي سوف ينطوي عليه ذلك وهو أن حربه والعدم سواء.
التباين عميق بين هذه النتاجات، وقليل منا هم الذين لن يتأثروا بالطريقة التي تمضي إليها الأمور. فأنت قد لا تكون مهتما بحرب أوكرانيا، ولكن حرب أوكرانيا سوف تكون مهتمة بك، وبالطاقة التي تستعملها، وبأسعار الغذاء، وأهم من ذلك كله بإنسانيتك، وذلك ما اكتشفه المحايدون أنفسهم أي الصين والهند.
فلنتعمق إذن في جميع هذه النهايات المحتملة.
النتاج الأول: لا يتوقع أحد أن يكون الجيش الأوكراني قادرا فورا على متابعة المكاسب العسكرية الكبيرة التي تحققت على مدار الأسبوعين الماضيين فيكتسح بقية الجيش الروسي ويدفعه إلى الجهة الأخرى من الحدود. لكنني للمرة الأولى أسمع الناس يتساءلون: وماذا لو انهار الجيش الروسي فعليا؟
من المؤكد أن عددا غير بالغ القلة من الجنود الروس، ومن الأوكرانيين الناطقين بالروسية الذين اصطفوا معهم، ظانين أنهم سوف ينتصرون ويبقون إلى الأبد، يطرحون على أنفسهم السؤال الذي طرحه جون كيري بشأن حرب فييتنام: «كيف تطلب من رجل أن يضحي بنفسه من أجل خطأ؟»
تمهلوا للحظة. لو أن أوكرانيا فعلا كانت قد أصبحت ـ مثلما زعم بوتين ـ دولة يقودها «نازيون» ورأس حربة لخطة الناتو للتقدم شرقا باتجاه الأرض الروسية، كيف لم يتسن لبوتين أن يطلب من الشعب الروسي أن يحتشد من أجل هذا القتال؟ لو أن القضية كانت عادلة والحرب ضرورة، فلماذا كان على بوتين أن يتوقع صمت الطبقة الوسطى في موسكو ولينينجراد؟
لكن الناس يتكلمون، وكل جندي روسي أو أوكراني ناطق بالروسية ممن وقف مع بوتين لا بد أنه يفكر: «هل أبقى؟ أم أهرب؟ ومن سيحميني عند انكسار الجبهة؟» هذا تحالف شديد الضعف معرض للانهيار المتتالي، الذي يبدأ بطيئا ثم يتسارع. وسترون.
لماذا؟ لأن بوتين قد ألمح بالفعل مرات عديدة إلى أنه عازم على النظر في استعمال سلاح نووي إذا ما بدأت أوكرانيا وحلفاؤها في التغلب على قواته. ومؤكد أنني أرجو لو أن لدى المخابرات المركزية الأمريكية خطة سرية لقطع سلسلة أوامر بوتين بحيث لا يضغط أحد الزر.
النتاج 2: لا أستطيع أن أتخيل الرئيس فلوديمير زيلينسكي يقبل هدنة أو ما هو قريب من ذلك في الوقت الراهن، في ظل أن لقواته الآن زخما كبيرا للغاية وأنه ملتزم باسترداد كل شبر من الأرض الأوكرانية بما في ذلك القرم. لكن استبقوا هذا النتاج في أذهانكم عند حلول الشتاء ورفض بوتين أن يبيع الغاز الطبيعي لأوروبا بما يرفع أسعار الطاقة ارتفاعا كبيرا يرغم معظم المصانع على الإغلاق ويدفع الفقراء من الأوربيين على المفاضلة ما بين التدفئة والطعام.
برغم أن ذلك قد يعني أن مكتسبات حرب بوتين قصرت عن أهدافها، فقد يبدي اهتماما باقتناص هذه النتيجة، ليكون لديه على الأقل ما يستعرضه.
كثير من القادة الأوربيين سوف يتلهفون على الصفقة، حتى وإن لم يقولوا ذلك بأعلى صوت. وإليكم ما قاله رجل دولة أوروبي متقاعد ـ مشترطا عدم الإفصاح عن هويته ـ في منتدى للتجارة والسياسة تسنى لي حضوره.
قال إن الهدف من حرب أوكرانيا هو النصر. وهدف الاتحاد الأوروبي مختلف قليلا. فهو إحلال السلام، وهذا له ثمن، وسيكون بعض قادة أوروبا مستعدين لدفع الثمن المناسب. قال إن الولايات المتحدة بعيدة، ولن يكون أسوأ الأمور بالنسبة لها أن تستمر الحرب لإضعاف روسيا والتيقن من أنها تفتقر إلى الطاقة اللازمة لأي مغامرات أخرى.
وأضاف أنه من المؤكد أن الاتحاد الأوروبي أكثر اتحادا مما كان عليه قبل بدء الحرب. غير أن الأمور سوف تزداد صعوبة خلال الأشهر القليلة القادمة. وقال رجل الدولة السابق إن انقساما كبيرا سيحدث في الاتحاد الأوروبي-وسيزداد صعوبة أكثر فأكثر مع ازدياد الأهداف اختلافا على اختلاف. فحتى مع بقاء التصريحات العلنية على ما هي عليه، فإن الاتحاد الأوربي سينقسم حول كيفية التعامل مع الحرب، لا على السؤال الكبير المتعلق بما إذا كان بوتين على حق أو أن هناك تهديدا، وإنما على كيفية التعامل مع الوضع كله، وبخاصة حيثما تظهر ردود الفعل الشعبوية حينما ينال التوتر من الناس في الشتاء القادم.
سيبدأ بعض القادة الأوروبيين في التساؤل «هل من مخرج عبر المفاوضات؟». مؤكد أن البعض من قبيل دول البلطيق سوف تؤيد زيلينسكي مائة في المائة. ولكن غيرهم بالتأكيد لن يكترثوا بالتجمد في دونيتسك ولوهانسك.
ومثلما قال لي مايكل ماندلباوم مؤلف كتاب «أربعة عصور من السياسة الخارجية الأمريكية» فإن بوتين قد يستشعر هذا ويقرر أن أفضل خطوة له هي أن ينقذ شذرة من الكرامة و«يفضح الانقسامات في الاتحاد الأوروبي بإعلان استعداده للتفاوض على وقف لإطلاق النار واستئناف شحن الغاز إلى الاتحاد الأوربي إذا أمكن التوصل إلى صفقة. لكن هذا سوف يقتضي بالتأكيد تزويد زيلينسكي بضمانات أمنية دائمة ملزمة، وربما عضوية كاملة في الناتو».
هذا النتاج صعب لأن من شأنه أن يعني أن بوتين أظهر أن بوسعه أن يغير حدود أوروبا بالقوة. لكنكم لو حسبتم أن بعض الأوروبيين (وبعضا أكبر من الجمهوريين في الكونجرس المؤمنين بشعار «أعيدوا عظمة أمريكا من جديد») لن ينتهزوا الفرصة ويضغطوا من أجلها إن امتدت الحرب إلى الشتاء فأنتم تخدعون أنفسكم.
كما أنني لن أستبعد تنويعة أخرى يمكن أن نسميها «النتاج الثاني ب»، وفيه يشتد بوتين من أجل ضمان عودته منفردا إلى الوطن وقد اصطحب معه قضمة من أوكرانيا، من خلال إلحاقه مزيدا من الضرر بالمدن الأوكرانية التي لا يسيطر عليها وبحمله برلمانه على تمرير تشريع يمكن المناطق الأوكرانية الأربع التي تحتلها روسيا من إجراء «استفتاءات» على الانضمام إلى روسيا. وخطوات هذا الأسبوع لإجراء استفتاءات يبدو أن لها هدفين: إيقاف الذعر في هذه المناطق بين الأوكرانيين المؤيدين لروسيا من التخلي عنهم، والإشارة إلى كييف وأمريكا والاتحاد الأوربي بما يعني أنه «لم يزل لدي الكثير من الصواريخ.
النتاج الثالث: وهو صفقة أقل صعوبة، لكنها مع الشعب الروسي، لا مع بوتين. وبموجب هذا السيناريو، يعرض الناتو والأوكرانيون وقفا لإطلاق النار على أساس خطوط 24 فبراير، حيث كانت القوات الروسية والأوكرانية متمركزة قبل غزو بوتين. تجتنب أوكرانيا المزيد من الدمار، ويتم التمسك بمبدأ عدم جواز تغيير الحدود بالقوة، لكن سيتعين على بوتين أن يعترف لشعبه قائلا «لقد فقدنا قرابة سبعين ألفا، والآلاف من الدبابات والمدرعات ومررنا بعقوبات اقتصادية رهيبة، ولم أحصل على شيء».
من المستحيل بالطبع أن نتخيله إذ يقول ذلك. لكن صفقة كهذه قد تصب في صالح الشعب الروسي. لذلك، في ما أتصور، ربما ينبغي أن تتعهد روسيا بأن تكون جارة جيدة مرة أخرى إذا ما رفع الغرب عقوباته. ويكون على زيلينسكي أن يتخلى عن حلمه باستعادة المناطق الأوكرانية التي استولت عليها روسيا سنة 2014، ويكون بوسع أوكرانيا أن تتعافى وتستأنف على الأقل عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وربما الناتو.
لقد كانت هذه الحرب دائما حرب بوتين. لم تكن قط حرب الشعب الروسي. وفي حين أن الشعب الروسي ربما يتصور أنه إلى الآن لم يدفع ثمنا كبيرا لصمته، فإنه مخطئ في ذلك. فعند توثيق كل تفاصيل الحرب الروسية في أوكرانيا وعرضها على العالم، لن يتمكن الشعب الروسي من الإفلات. وحينما يتوقف القتال ويطالب العالم بتحويل احتياطيات روسيا الأجنبية المجمدة حاليا في البنوك الغربية ـ وتبلغ قرابة 300 مليار دولار ـ إلى أوكرانيا لإعادة بناء المستشفيات والجسور والمدارس التي حطمها الجيش الروسي، سيبدأ الشعب الروسي في فهم أن هذه الحرب لم تكن مجانية.
ومرة أخرى، لست ساذجا. لو ذهب بوتين، وحل محله بطريقة ما القومي المناهض للفساد وللحرب أليكسي نفانالي، الذي يعتقد أن بوتين قد دس له السم ثم اعتقله سيظل التوصل إلى وقف لإطلاق النار مع أوكرانيا أمرا صعب التفاوض والدوام.
وإنني واع أيضا بأن جزءا من هذا النتاج قد يؤدي إلى مجيء شخص سيئ، شخص من اليمين المتطرف ممن يرون أن بوتين لم يقاتل بالضراوة الكافية أو خذله جنرالاته. أو يحل محل بوتين فراغ في السلطة وفوضى في بلد فيه آلاف الرؤوس النووية.
لكن تأملوا ذلك النموذج الاستثنائي للاحتجاج الشعبي على بوتين الذي كتب عنه الأسبوع الماضي زملائي في نيويورك تامز ممن يقومون بتغطية روسيا، فهو ينبئكم بأن هذه الأيام استثنائية في ذلك البلد وقد تفضي إلى ردود أفعال استثنائية: «لقد أعلنت نجمة موسيقى البوب الروسية الشهيرة آلا بوجاتشيفا معارضتها لغزو أوكرانيا يوم الأحد، لتكون أهم المشاهير المعارضين للحرب في الوقت الذي تواجه فيه قوات الرئيس فلاديمير بوتين تحديات ميدانية متنامية ومتقطعة. كتبت بوجاتشيفا، البالغة من العمر 73 سنة، لمتابعيها في انستجرام البالغ عددهم 3.4 مليون، إن الروس يموتون في أوكرانيا لـ«أهداف وهمية».
كل هذا يسهم في تفسير التيار الخفي الذي استشعرته في أوروبا الأسبوع الماضي، ذلك الإحساس بأن العام الحالي قد ينتهي نهايات شديدة الاختلاف، فمنها ما هو أفضل، ومنها ما هو أسوأ، لكن ليس بينها ما هو يسير.
وكل هذا ولم نتكلم عن النتاج الرابع، أو الشيء الذي لا يمكن التنبؤ به.
توماس فريدمان كاتب عمود في الشؤون الخارجية بجريدة نيويورك تايمز ومؤلف كتاب «من بيروت إلى القدس».
«خدمة نيويورك تايمز» ترجمة خاصة بجريدة $