ما دفعني إلى كتابة هذا المقال هو حالة الزخم الإعلامي الهائل الذي صاحب رحيل ملكة المملكة المتحدة إليزابيث الثانية، التي يصفها الإسكتلنديون باسم إليزابيث فقط؛ لأنهم عاشوا باعتبارهم رعايا لها، بينما كانت إليزابيث الأولى تحكم إيرلندا. بل إنها كانت تعشق إسكتلندا بريفها ومروجها الخضراء؛ ولهذا كانت تحرص على المكوث فيها طلبًا للاستجمام والراحة. الناس البسطاء عبر العالم يحسدون الملوك والأمراء على حياتهم التي يرونها حياة مرفهة يكون كل شيء فيها طوع بنانهم؛ ولكنهم بذلك لا يرون من حياة هؤلاء سوى الجانب الظاهر منها! فالناس لا يفهمون متطلبات الجانب الروحي من الحياة التي قد لا يقدر الملوك عليها فلا تكون طوع بنانهم، مثل: الحب والزواج وعيش الحياة العادية في نوع من التحرر، ومن دون رقابة سواء من الأسرة الحاكمة أو من الشعب نفسه؛ ناهيك عن الصحافة المتطفلة أو ما يعرف باسم «الباباراتزي»Paparazzi، وهم المصورون الصحفيون الذين يتتبعون كل كبيرة وصغيرة في حياة المشاهير.

حياة الملوك لا تخلو من الشقاء إن كان الملك يحكم ويسوس شؤون رعاياه. وحتى إن كان الملك يملك ولا يحكم، كما هو الحال في الملكية البريطانية الحديثة، فإن الملك لا يكون منعزلًا عن شؤون رعاياه؛ لأن مواقفه ورؤاه يمكن أن يكون لها تأثير بشكل ما أو آخر في صنع القرار السياسي؛ ولذلك فإنه يحرص على تخليد صورته في أذهان الناس والأجيال التالية.

يزداد شقاء الملوك حينما يكون النظام الملكي متسمًا بالحفاظ على تقاليد صارمة موروثة، وليس هناك نظام ملكي في عصرنا الحديث يتسم بهذه التقاليد الصارمة بشكل يضاهي أو حتى يقترب من النظام الملكي البريطاني. لقد تبين لنا هذا بوضوح حتى من خلال مراسم تشييع جثمان الملكة إليزابيث الثانية الذي امتد لأيام عديدة، والذي بدأ من القصر الملكي بإسكتلندا مرورًا ببلدان عديدة حتى وصل في النهاية إلى لندن. مسار الرحلة الجنائزية يسير بحساب رياضي دقيق من أوله إلى منتهاه، حتى في فيما يتعلق بتوقيت الكلمات التي تُلقى، والموسيقى التي تُعزف، وشكل اللباس الذي يرتديه أفراد الأسرة المالكة فضلًا عن الموظفين الرسميين الذين يرتدون لباسًا مخصوصًا، كلُ بحسب نوعية وظيفته، وغير ذلك. كل هذا محسوب بدقة تعكس حالة من الصرامة الخانقة التي تضني الجسد والروح معًا. لقد كانت نهاية مراسم التشييع الجنائزي كاشفة عن هذه الحالة، إذ تداعى إلى الأرض أحد قادة المراسم، ذلك الرجل العجوز الذي لم تستطع قدماه أن تحمله من طول المشي والوقوف والانتظار، فسقط وقد أصابه الإغماء. والمدهش أنه بينما كان هناك من يجرونه على الأرض، سرعان ما احتل مكانه أحد زملائه، كي لا تتوقف مراسم التشييع لحظة واحدة!

هذه التقاليد الصارمة في الحياة وفي الممات متوارثة عبر العصور، حتى إن الملوك البريطانيين لم يعيشوا حياة طبيعية كغيرهم من البشر، إذ كان يصحبهم -فيما مضى- الحراس حتى في غرف النوم وعند دخول الحمام. هذه التقاليد الصارمة هي التي جعلت الملك إدوارد الثامن يصف نفسه بأنه «لم يكن ملكًا حقًا، وإنما مجرد دمية يحركها مدير التشريفات وقائد الحرس ومسؤول البروتوكول» (نقلًا عن عادل حمودة بجريدة الفجر المصرية). هذه التقاليد الصارمة المتجهمة، بل اللاإنسانية، هي التي دفعت بعض أفراد الأسرة الملكية إلى التمرد عليها بشكل علني أو خفي. ولهذا كان إدوارد الثامن أول المتمردين بشكل علني على هذه التقاليد والقيود المعقدة في الأمور المتعلقة بتفاصيل الحياة وشؤون الزواج، وغير ذلك؛ فتنازل عن العرش ليتزوج من المطلقة الأمريكية التي أحبها قلبه. تمردت أيضًا الأميرة مارجريت شقيقة الملكة إليزابيث الثانية على حياة الملكية، وعاشت حياة ماجنة، واضطرت الملكة في النهاية إلى الموافقة على زواجها الذي ترفضه تقاليد الكنيسة التي ترعاها الملكة. حدث هذا التمرد أيضًا مع الأميرة ديانا زوجة ولي العهد آنذاك الأمير تشارلز، التي عُرفت بأميرة القلوب. اعترفت الأميرة بالخيانة الزوجية مع عماد (أو دودي) الفايد ابن الملياردير المصري البريطاني محمد الفايد. انتهت هذه الحكاية بالموت المروع للأميرة ديانا في حادث سير مأساوي لم يعرف أحد سره وملابساته اليقينية حتى الآن. ولكن ما بقي هو أن الأميرة ديانا ظلت أميرة للقلوب رغم النظرة الأخلاقية التي تعتبر الخيانة الزوجية خطيئة لا تُغتفر؟ لماذا؟ كانت ديانا تعاني مثلما يعاني الناس من الاكتئاب الذي تتعدد أسبابه، وأهمها عدم التوافق مع أسلوب الحياة التي نعيشها. أصابها الاكتئاب بحالة من الشراهة التي تجعلها تلتهم الطعام، ثم تتقيأه بعد ذلك. تعاطف الناس معها باعتبارها موجودًا بشريًّا مثلهم، وأكبروا فيها أنها رغم معاناتها كانت تتعاطف مع الفقراء والمحتاجين وتشارك في المشروعات الخيرية من أجل الناس عبر العالم.

ما أود قوله إن حياة الملوك لا تخلو من الشقاء؛ وهذا الشقاء يدعم تعاطف الناس معهم. ولذلك فإنه مما يدعم بقاء الملكية ودوامها في عصرنا الراهن هو ألا ينعزل الملوك عن حياة البشر فيتقوقعوا داخل تقاليد صارمة عقيمة لا صلة لها بالإنسانية، طالما أن الملوك وعموم الناس يعانون في النهاية نفس الحياة. فهذه التقاليد يجب أن تبقى فقط في إطار المراسم السياسية، لا في شؤون الحياة والممات.