تستسلم الذاكرة لشريط الذكريات الدراسية مع بداية كل عام دراسي جديد، فمن رؤية الملابس لدى الخياطين إلى الحقائب والكراسات المصفوفة في المحلات التجارية مرورًا بروائح الكتب لدى الأبناء أو تغليفها بالأغلفة الشفافة، علاوة على تذكّر المعلمين الذين نقشوا كلماتهم على جدران الذاكرة، وشكلوا جزءًا من عالم الطفولة وأيام الشقاوة والفتوة. هذا العام الدراسي بدأ بقصة إنسانية ونبل أخلاقي، بثته قناة الجزيرة، إذ قام شاب عُماني برحلة البحث عن معلمه بعد مرور 35 سنة، فكما ذكرت القناة أن المواطن سليمان الصلتي وجد أستاذيه الزوجين عبدالحميد الخزري ودلندا حمدي ساكني مدينة بنزرت التونسية، واللذين كانا معلمين في محافظة مسقط قبل 35 سنة، الرحلة التي جاءت بعد بحث امتد لسنوات تحدث عنها سليمان الصلتي لإذاعة ديوان إف إم التونسية، ما كان اللقاء سيحصل لولا مساعدة الإعلاميين التونسيين محمد كريشان ولطفي الحاجي والإعلامي العماني أحمد الشيزاوي، بعد أن عجزت وسائل التواصل الاجتماعي عن تحقيق مراده.

قصة سليمان ذكرتني بقصة مماثلة قام بها كاتب هذه السطور للبحث عن أستاذه الكافي المفتاحي في تونس صيف 2003 للسلام على أستاذه الذي ترك التدريس في مدرسة صوب (قرية بين مرباط وسدح) عام 1993. ولحسن الحظ كان التواصل عبر الرسائل البريدية متاحًا بين الأستاذ وتلميذه، لمدة عشر سنوات. وحين سنحت الفرصة للطالب الذي تخرج من كلية المعلم وأصبح معلما، أراد الذهاب إلى أستاذه ليشكره ويقول له إن تشجيعه واهتمامه به لم يذهب أدراج الرياح، لكن الرحلة لم تكن سهلة على شاب في بداية خروجه من منطقته، ولكن بجهود الأصدقاء تتذلل الصعوبات ويصبح الصعب سهلا، فقد ساعد الطالب للوصول إلى قرية أستاذه، المعلم محمد علي الأسود المرزوقي ابن الشاعر التونسي المعروف بقصيدته (لا تفكر في ربيع عربنا)، ومعه ابن عمه عمر اللذان استقبلاه في مطار قرطاج في يونيو 2003. كان التلميذ يحتفظ برقم هاتف أرضي لبيت أستاذه لكن الهاتف لا يعمل بسبب التحول إلى الهواتف المحمولة، وأيضا كان يعرف اسم (العيون) قرية أستاذه، لكن أهل تونس يردون عليه هل تقصد حاجب العيون؟ فيرد الطالب بالنفي. وبعد عدة أيام توصل الطالب إلى هاتف أستاذه وأخبره بوجوده في العاصمة تونس، فما كان من الأستاذ إلا أن اتصل بأخيه الذي يعمل في وزارة العدل لاستقبال الطالب، والتجول معه في المعالم السياحية كسيدي بوسعيد والمدينة العتيقة وغيرها.

في اليوم التالي دل الهادي شقيق الأستاذ الكافي، الطالب إلى محطة (اللواجات) محطة النقل البري، ودفع التذكرة ووصى السائق على الضيف. اتجهت الحافلة إلى مدينة سبيطلة، حيث التقى الطالب بمعلمه الذي كان واقفًا على الرصيف ينتظر تلميذه الذي تركه في الصف الثامن (الثاني الإعدادي)، كانت لحظة لقاء المعلم وتلميذه من اللحظات التي لا تُنسى، وهي التي تذكرها كاتب هذه الكلمات حينما رأى سليمان الصلتي يسلم على معلمه.

كان المعلم مسرورًا بتلميذه في قرية العيون، فقد أقام مأدبة عشاء وعرفه على أهل القرية، توسعت الآن وأصبحت مدينة- لم يكن يعتقد الطالب أن تلك الرحلة ستُضيف له تجربة علمية وثقافية ترافقه في كل مراحل من مراحل عمره، فبعدها بسنتين التحق الطالب بالمعهد العالي للتنشيط الشبابي والثقافي ببئر الباي، كأول طالب عُماني وخليجي يلتحق بتلك المؤسسة الأكاديمية التي تمنح شهادات البكالوريوس والماجستير والدكتوراة في العلوم الثقافية، فرجع الطالب إلى مقاعد الدراسة في معهد يقع في غابة على شاطئ حمام الشط، وبين فترة وأخرى يزور معلمه.

كُتبت تلك الرحلة والتجربة في كتاب الطرف المرتحل، دار الفرقد، دمشق 2013، وقد أرسلت نسخة من الكتاب إلى أستاذي المرحوم الكافي المفتاحي، الذي رحل عنا في يوليو 2018، وسأظل مدينا له بكل عبارات التشجيع وتحويل مساري من تلميذ مشاغب إلى تلميذ ينافس على المراكز الأولى في التحصيل الدراسي.

إن الكتابة عن المربين والأساتذة، أو محاولات السفر إليهم واللقاء بهم، ما هي إلا اعترافات بالجميل لمن بذر البذرة الصالحة في أنفسنا، وشعور جميل يملأ النفس بالغبطة والسرور والتخفف من ثقلة الدين المعنوي تجاه الآخرين.