أقضي عطلة آخر الأسبوع في القراءة، يرافقني كتابي إلى كل مكان أرتاده، كنتُ لوحدي أم مع العائلة، يدهشني دومًا كيف يقرأ الصغار علاقتي بالقراءة، إذ يبدو الأمر بالنسبة لهم مضجرًا عدا أنه يحتاج لطاقة هائلة لا بد وأن سرًا كبيرًا يقف وراءها، مثل أن يكون القارئ إنسانًا موهوبًا، وأن تلك العادة لا شك وأنها غير مكتسبة. الأمر الذي قد يسوغ لأحدهم ما أن يكبر قوله: «لم أقرأ في حياتي سوى كتب الدراسة»، ومع أن هؤلاء الصغار يعيشون في مجتمع يقدم تسويغات تم تحسينها للتعامل مع عدم الاطلاع وعدم الرغبة في المعرفة، كالإشارة مثلاً لكون مصادر المعرفة متعددة للغاية، وليست الكتب إلا واحدة منها إلا أنهم يعانون في الوقت نفسه بطرق أكثر تعقيدًا مما نظن في معظم الأحيان. أحاول الحديث معهم عن المتعة، والأثر الإيجابي للانغماس في القراءة عن ظاهرة معينة، وكيف يمكن للقراءة أن تجعلني أكثر تعاطفًا مع الآخرين، وربما تساعدني على مواجهة الكثير من المخاطر غير الواضحة في الحياة؛ لأن هنالك أشياء غير واضحة، وعالما غير مرئي، فنحن نعاني ونتألم من الداخل مع أننا لا نشارك الآخرين في كل مرة نتألم فيها. أريد أن أقول أكثر، لكنني لا أحب أن أكون صدامية، خصوصًا وأنني لا أحملهم ذنب موقفهم هذا، بل أجد أننا مسؤولون بطريقة ما، إحدى الصغيرات، تكون متحمسة للغاية إلى كل مشوار خارج البيت، لكن بمجرد وصولنا للمكان المنشود تكتفي بالتقاط صورة ومشاركتها عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ثم تجلسُ نكدة ومتململة في الزاوية الأبعد عن تمركز كل من خرج في ذلك المشوار الذي كان بقصد التواصل الاجتماعي أو اختبار تجربة جديدة. أفكر هل نعرف العطب الذي يتسبب به العالم الذي نعيش فيه وشروطه اليوم علينا؟

تكتب فيني روتوندارو عن الصيام كطريقة لمقاومة سيل الأشياء التي تتدفق إلينا من كل اتجاه، وتتحدث عن تاريخ هذه الممارسة في السمو الروحي، وحضورها في الأديان، وتمثلاتها في حياتنا اليومية من أجل تحقيق غايات معينة، مثل انتشار ظاهرة الصيام المتقطع التي أصبحت رائجة بصورة كبيرة، وتهدف لإنقاص الوزن والعيش بلياقة أكبر.

تحاول روتوندارو التفكير في الصيام كممارسة سياسية إزاء المجتمع الاستهلاكي الذي نعيش فيه، وذلك عبر تطبيق نوع من الحرمان من المحفزات والمثيرات الشائعة والضارة بطريقة خاطفة وماكرة. ليس فقط عن الطعام، ولكن من كل شيء مثل «الميمز» ومنتجات الحروب الثقافية، التي تبقينا مشتتين ومدمنين على المشاعر السيئة التي تصلنا عبر منصات التواصل الاجتماعي، إذ ترى أنها مصممة لتشعرنا بالعزلة، ولتتلاعب بمخاوفنا، وتناشد أعمق غرائزنا. تتساءل روتوندارو ما الذي سيحدث لو قررنا فصل هواتفنا لمدة يوم أو يومين؟

تكتب أيضا عن تفاوت الشعور بالألم لدى أجيال مختلفة في أمريكا، وعلاقة مستوى التعليم بالتعبير عن الألم عند كبار السن الأمريكيين، التي تنتمي الكاتبة إليهم، تقول: إن ما عبروه خلال فترات زمنية متعاقبة يصعب التعامل معه، فلو تجاهلنا ما حدث قبل بداية الألفية الثانية فإن بدايتها كانت مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر ثم الغزو غير الشرعي على العراق الذي استمر عشرين عامًا، وإعصار كاترينا، والعنصرية ضد السود على أيدي رجال الشرطة، وانهيار سوق الأسهم في عام 2008 ثم الحماسة للتصويت لباراك أوباما أول رئيس أسود أمريكي، الذي تبين فيما بعد أن مشروعه للتغير والأمل لم يكن سوى وهمًا آخر للتغيير. واليوم هم يشهدون انهيارًا حقيقيًا للطبقة الوسطى، ووباء كورونا الذي ينبغي التعايش معه. ثم هنالك ذلك الصوت الذي يقول لك باستمرار: «لطالما كانت الأمور على هذا النحو».

على الرغم من انتشار ثقافة الإنترنت وتطلق عليها «ثقافة الشاشة» التي تعدنا بأن تبث فينا كلمات مقتطفة من تاريخنا البشري، وترسلها مباشرة إلى ضميرنا الجماعي، فعلى الرغم من هذه الإمكانيات إلا أنها لا تبدو واعدة فيما يتعلق بالتنمية البشرية. وتقول إلى أي مدى سنسهم في إدامة هذا الواقع والانغماس فيه عبر زيادة تلقي وبث هذه المعلومات؟ مستخدمة ذلك المثل البوذي «اسقِ الزهور، لا الأعشاب». وبوجودنا الحالي على الإنترنت فإننا نسقي لا الأعشاب فحسب، بل الضارة منها أكثر. وتشير: يبدو أن التدفق المتواصل لوسائط الهواتف الذكية ينقر على مراكز الإدمان في أدمغتنا، ويؤدي إلى تأثيرات سلبية على عواطفنا. إذا كنا مكتئبين أو غاضبين أو قلقين أو خائفين، فقد يكون من السهل تفريغ مشاعرنا على بعض الأعداء «الآخرين» في المجتمع. وبهذا فإننا وببساطة شديدة نراكم التوتر والاضطراب في نظامنا.

إلا أن السؤال المهم في هذه الحالة بعد أن قمنا بتشخيص حالة المجتمع المعاصر اليوم، هي البحث عن الحل وترى روتواندرو أن السؤال عن الأمل، مرتبط بعلم طب الألم، الذي يثبت أن التعرف على كيفية عمل الألم يدفعنا بالفعل لقطع طريق نصف المعركة. حتى فيما يتعلق بالأمراض والاضطرابات النفسية الناجمة عن تعرضنا لسيل المعلومات هذا، فعلى الرغم من أن هذا قد يبدو جنونيًا إلا أن الألم بالفعل ينتج بالكامل في الدماغ، وتضرب مثالاً على ذلك عندما ترتطم بإصبع قدمك فإن إشارة تنتقل عبر الجهاز العصبي إلى العمود الفقري في الدماغ، حيث يتم تقييمها هناك مع مراعاة للذاكرة، والسياق تنتج إشارة استجابة مناسبة، وهذه العملية هي ما تسمى الألم، لذا بطريقة ما فإن الألم موجود بالفعل في رأسك.

أظن بأن الحديث عن تأثيرات شكل الحياة اليومية كما هي عليه اليوم مهم للغاية، إذ ننغمس نحن على اختلاف مواقعنا داخل مجتمعاتنا داخل هذا السيل المتدفق من المعلومات التي تجعلنا منومين على نحو ما، وهاربين بطريقة قسرية ننازع فيها حتى طبيعة أجسادنا وقدرتها على احتمال هذا القدر الهائل من المخاطر. ولا شك أن الصغار اليوم مهددون على نحو أكثر، ولا يعني هذا الدعوة للوصاية عليهم بأي طريقة، بل بالتفكير في هذه المسائل، وتصميم نماذج مؤسسية؛ لإنقاذ ما يمكن إنقاذه بإرادة حقيقية للتغير ولضمان حريتهم ورفاههم في المستقبل.