مع وفاة آخر رئيس للاتحاد السوفييتي ميخائيل جورباتشوف، يسدل الستار على فترة عصيبة حصلت للاتحاد السوفيتي السابق، بما له وما عليه والتي انتهت بسقوطه، وتفكك دول الاتحاد جمعيها، بل وانهيار المعسكر الشرقي كله الذي يضمه «حلف وارسو»، وكان مضاداً لـ«حلف الناتو»، ونداً قوياً للغرب الرأسمالي في ظل الصراع السياسي والاقتصادي ، أو ما يسمى بـ«الحرب الباردة» بعد الحرب الكونية الثانية. عُرف عن الرئيس جورباتشوف، بأنه فكّر جدياً بعد توليه الحكم في القيام بإصلاحات لهذه الدولة الاشتراكية السوفييتية العظمى، وهذه الخطوات الإصلاحية التي يقال أنه فكر فيها منذ ما يزيد عن عقد ونصف من السنين، وهو لا يزال في خطوات تدرجه في الحزب الشيوعي السوفييتي، لكنه بعد حكمه بدأ في طرح هذه الأفكار علانية والتي قلبت الموازين على النظام، وعلى نفسه أيضاً، والمعسكر كله، والتي تمت تسميتها اصطلاحياً بـ«البريسترويكا»، أو إعادة البناء، أو المصطلح الآخر بـ «الجلاسنوست»، أو المصارحة والمكاشفة، وقد تحرك فيها بجدية منذ السنة الأولى لحكمه.

وقد بدأت حياة جورباتشوف السياسية، بعضويته في الحزب الشيوعي السوفييتي، وهو لا يزال في مرحلته الدراسية الجامعية عام 1952، وذلك بسبب استقطاب الحزب للعناصر الواعية والناجحة، في المراحل الدراسية للانضمام للحزب، ويقال أنه بدأ الحراك السياسي من خلال (منظمة الشباب الشيوعي)، في عام 1946، وقد تدرج جورباتشوف في النشاط السياسي في الحزب بتسلم العديد من المسؤوليات المتعددة، ففي بداية السبعينات من القرن الماضي وكانت مسؤوليات جورباتشوف في بداية عضويته مسؤولاً في بعض الأقاليم في الدعاية الحزبية في عام 1956، تم تعيينه عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، وهي الجهة الرئيسية التي تسير الدولة السوفييتية في سياساتها الداخلية والخارجية، وبعد هذا التعيين تم استدعاؤه إلى العاصمة موسكو بحكم العضوية الجديدة، وبالقرب من المهام الكبيرة في اللجنة المركزية، بعد ذلك اقترب من صناع القرار في السلطة في بداية السبعينات من القرن الماضي، وأصبح من ذوي الحظوة والمكانة الكبيرة في القرار السياسي المؤثر في أعلى سلطة في الدولة السوفييتية، وهي العضوية في اللجنة المركزية.

وفي بداية الثمانينات من القرن الماضي، ومع تولي صديقه «يوري أندروبوف» رئاسة الحزب الشيوعي، وهي وفق النظام السوفييتي الرئاسة، وقد كان «أندروبوف» قبل ذلك مديراً للمخابرات السوفييتية، وبعد وفاته عام 1984، وتولى « تشيرنينكو» رئاسة الاتحاد السوفييتي، وقد كان كبيراً في السن، فاقترب جورباتشوف من الحكم أكثر، وبعد وفاة «تشيرنينكو» في نفس العام 1985، تولى ميخائييل جورباتشوف رئاسة الحزب الشيوعي وهي الرئاسة الفعلية للنظام في نفس ذلك العام، ومع توليه المسؤولية، وجد جورباتشوف الكثير من تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الاتحاد السوفييتي، وكان في باله الكثير من الأفكار الإصلاحية التي تسمى ـ كما أشرنا آنفاً ـ بـ«البريسترويكا»، أو إعادة البناء، أو المصطلح الآخر بـ «الجلاسنوست»، أو المصارحة والمكاشفة، وهذه الأفكار الإصلاحية، كان يمكن تطبيقها بالتدرج المحسوب، مع الظروف الاقتصادية وتراكم المشكلات في العديد الدول المنضوية تحت الاتحاد السوفييتي، أو في المعسكر الاشتراكي التي تعد من الدول التابعة للنظام السوفييتي سياسياً وعسكرياً.. ونتذكر ما حصل في ربيع براج بجمهورية تشيكوسلوفاكيا الاشتراكية عام 1968، عندما أقدم «ألكسندر دوبتشيك» زعيم الحزب الشيوعي بتغيير النهج السياسي للبلاد القائم على النظام الشمولي والحزب الواحد، والذي كانت تطبقه كل الأنظمة في المعسكر الاشتراكي. لكن الاتحاد السوفييتي في عهد الرئيس «برجيبف» قرر بالتشاور مع بقية دول المعسكر الاشتراكي التصدي لهذه الخطوة المغايرة للنهج الفكري القائم في هذا التكتل السياسي، فقرر التدخل لإحباط ما قام به «ألكسندر دوبتشيك» من تغييرات وتعديلات في النهج القائم، فتمت إقالته من الحزب والمهام السياسية، وتعيين البديل الموالي للدولة السوفييتية والعسكر الاشتراكي في تشيكوسلوفاكيا.

ولا شك أن جورباتشوف بحكم سيرته السياسية والحزبية، لم يقصد إنهاء الاتحاد السوفييتي، بهدف الاقتراب من الغرب الرأسمالي، لكنه لم يكن يتوقع أن تصل هذه الإصلاحات إلى هذا المدى الخطير والمفاجئ للجميع، حتى للدول الغربية الرأسمالية، التي تخالف هذا النظام السياسي السوفييتي، وشمل أيضاً كل المعسكر الشرقي، لكن الأزمات كانت على (شفا جرف هار)،على الدولة السوفييتية في تلك الفترة، فالبلد بحالة الجمود الشمولي دون تغيير أو تجديد، وفي ضل القبضة الحديدية الصارمة، لم تتح المجال للنقد والشفافية والحرية، لنقد الأوضاع القائمة، فقد تراكمت المشكلات والتحديات والأزمات، فلم يكن التدخل السوفييتي في أفغانستان هو السبب الوحيد في انهياره، كما يقول بعض المتابعين للوضع الذي صار عليه التدخل، وفشله لحماية النظام الشيوعي في أفغانستان، ولم يكن سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي هو السبب الذي آلت إليه الأوضاع، بعد تسلم جورباتشوف، بل هناك أسباب عديدة تراكمت وأدت إلى ما أدت إليه في غياب الشفافية والمراجعة والنظر إلى الظروف، وبعض هذه الأسباب كانت قبل ذلك بعقود طويلة، ولذلك فإن ما قام به الرئيس جورباتشوف كان له من الأسباب المعقولة للتجديد والابتعاد عن الجمود الذي خيّم على دولة عظمى، بصورة كبيرة أشبه بالزلزال الضخم الذي أصاب النظام والدولة معاً، أو هو أشبه بما يريد أن يرمم في البناء القائم فأنهار كله.

فقد كانت التوقعات ـ وهذه من نظريات «كارل ماركس» وأدبياته الفلسفية ـ أن ينهار النظام الرأسمالي ويكون البديل النظرية الماركسية، وليس النظام الشيوعي المضاد للنظام الرأسمالي وصراعه الدفين معه، لكن الذي أفاد النظام الرأسمالي وأبعده من الزلزال والانهيار، هي الحريات الصحفية، والديمقراطية، والتعددية السياسية من خلال الأحزاب من كل التوجهات، بما فيها الأحزاب اليسارية في الغرب الرأسمالي، ولذلك في الدول الليبرالية حصلت فيها الكثير من المشكلات للنظام الرأسمالي، منذ أوائل القرن الماضي، لكن نتيجة للطرح النقدي والمراجعات الاقتصادية للنظام الرأسمالي وإيجاد البدائل للسلبيات في أسس النظام، أبعدت الرأسمالية المتوحشة عن الثورات عليها، وأصبحت وديعة ومقبولة حتى من الأحزاب اليسارية في الغرب، وهذا ما كان يسعى إليه الرئيس السوفييتي الراحل جورباتشوف، عندما وصل للحكم، وطرح كرة الإصلاحات والتغييرات، من خلال خطاباته وحواراته في الزيارات واللقاءات، مع حتى العاملين في المصانع والمستشفيات وغيرها من الأماكن التي كان يزورها.

وهذه الخطوات كان هدفها الإصلاح من الجمود والبيروقراطية، والتراجع الزراعي والصناعي، كما تحجرت الصناعة وتراجعت، بالمقارنة بالصناعات الغربية، أيضا الزراعة لاقت الكثير من الانهيار والتراجع بسبب التطبيقات التي وضعت للمزارعين، وهو القطاع العام وليس هناك قطاعا خاصاً في الدول الاشتراكية، مع أن الاتحاد السوفييتي بلد زراعي في المقام الأول، وليس من الدول الصناعية منذ القرن الثامن عشر التاسع عشر، وبدايات القرن العشرين.

ويذكر الباحث «غيرد روغ» في كتابه عن جورباتشوف، أنه كان جاداً في الإصلاح إذ بدأ: «متفهماً للمشاكل الكبرى التي يعاني منها الناس وراح في الوقت عينه يختلط بهم ويصغي بانتباه إلى شكواهم. قال يومًا إلى عمال أحد مصانع السيارات في موسكو وكرر ذلك في مصنع لاستخراج المعادن في «دنيرو ببتروفسك»: «إما أن نتحدث بصراحة، وإما لا معنى لحديثنا على الإطلاق». اعتاد العمال القول إلى كبار الموظفين أثناء زياراتهم البروتوكولية لهم: إن كل شيء يسير على ما يرام. وها هو رئيس الحزب يرّد عليهم بوجوب قول الحقيقة الكاملة. لم يكتفِ في إحدى مستشفيات موسكو، بالسؤال عن راتب الممرضات، بل راح أيضًا يتساءل إذا كان ذلك يكفي لإعالتهن. ولم يبدِ دهشته أو امتعاضه عندما قلن له أن ذلك غير كاف». ودارت التحليلات بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الاشتراكي، فالبعض من اليساريين المؤيدين للماركسي، والبعض الآخر الناقد يرى أن الخلل في أسس النظرية.