لم أستطع مقاومة قراءة "أقفاص فارغة" لفاطمة قنديل رغم أن الكاتبة صالحة عبيد حذرتني، قالت لي إن كنت في مزاج أميل للحزن لا تقرأيه، إلا أني لم أكترث، فمنذ زمن بعيد وأنا أدرب نفسي على أن لا أخضع لمزاجي.

كنت قد ذهبت إلى ظفار وأنا في منتصف رواية "حلم ماكينة خياطة" للإيطالية بيانكا بيتسورنو، وهي رواية عن بنت صغيرة تربيها جدتها الفقيرة وتعلمها كي تكون خياطة، لتصبح امرأة شريفة غير مضطرة لبيع جسدها في بيوت السادة وهي تخدمهم.

وهكذا تدربت على أن تصبح خياطة منزلية، تؤدي أعمال الخياطة الصغيرة، ملابس البيت أو ملابس الأطفال أو الملابس الداخلية، وتنكشف في ذات الوقت على أسرار البيوت الكبيرة وحوادثها، هذه الخياطة الصغيرة كان لها نصيبها من الآلام والأحزان ومن الإذلال والتشكيك في الشرف، لكنها أيضا استطاعت أن تتعلم القراءة وشغفت بها، واستطاعت تنمية تذوق خاص للأوبرا، وأن تحسن للفقراء وتساعدهم، وأن يصبح لها عائلة صغيرة.

بعد أن أنهيت الرواية أظن أني كتبت في مكان ما "قصص النساء تتشابه، كلها مرارة وقسوة، إلا أن بيتسورونو تمنحنا القدرة على رؤية ذلك الضوء النحيل المخاتل بخلق شخصية صلبة ومتخلية إلى حد كبير عن الأوهام".

القراءة الثانية كانت كايميرا ١٩ للروائية الأردنية سميحة خريس، كايميرا ١٩ رواية قصيرة أو نوفيلا، تدور كلها حول شخص واحد، شخص شرير بطبيعته، شخص نرجسي وسايكوباثي من الدرجة الرفيعة، له وجه آدمي ودخيلة حيوان، ميزة الرواية أنها لم تدعي التضاد بين الخير والشر وصراعهما في النفس البشرية، بل صورت نفسا نرجسية سايكوباثية، تبدل أقنعتها وفق مصالحها، وتحتفظ في داخلها بالحيوان الذي يهوى القتل ولا يكترث بأحد سوى دوافعه الخاصة، دوافعه القديمة التي شكلته.

أجلت قراءة "أقفاص فارغة" حتى الأيام الأخيرة في ظفار، ولم أكن أعرف ما الذي كنت أتوقع من هذا النص، ولا أعرف إن كان النكد أو الحزن أو الاكتئاب المراوغ هو ما يجدر أن أحذر منه، ففاطمة قنديل وبكل براعة الشاعرة عرفت كيف تشظي الأحزان بخفة وهي تحكي قصة حياتها، فهذه الرواية هي سيرة أيضا.

"أقفاص فارغة" تركز على علاقة فاطمة قنديل بأمها خاصة أثناء مرضها الأخير، وهناك بالضبط استعدت آلام أمي، وجهها، كفيها، أحزانها، خوفها، قلقها، ووداعنا الأخير، هناك استعدت شعوري بالذنب وعجزي، هناك أردت أنا أيضا أن أستعيد أمي لدقائق قليلة.

مع كل تلك الآلام الصغيرة الحادة التي كانت ترهقني، إلا أني لم أستطع تجاوز دهشتي من البراعة الفنية في تشظيات الزمن إلى أزمان قصيرة متداخلة، تجعل من البناء الفني متماسكا ومنسابا، ثقيلا وخفيفا في آن واحد، ومن خلال هذا البناء المحكم تتجلى سيرة الحياة بكل صدقها، تماما كأنها رواية، فالحياة مجرى للآلام، أليس كذلك؟