ظل علي عبدالخالق يدين بالامتنان لوزير الثقافة المصرية في عهد السادات يوسف السباعي طيلة حياته، ولا يترك فرصة حوار صحفي دون أن يعبّر عن هذا الامتنان، حتى بعد نحو أربعين سنة من موت الوزير، والسبب أن السباعي تدخّل في وقت مبكّر لمنع إيقاف عبدالخالق عن العمل.
والحق أنه ينبغي لمحبي السينما الجميلة التي سيقدمها عبدالخالق بعد فك الحظر عنه، أن يشاطروه الامتنان، للسباعي أيضًا، وإن اختلفوا معه سياسيّا حول موقفه المؤيِّد للتطبيع، والذي دفع حياته ثمنًا له، حتى قبل أن يشهد توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. لم يكن عبدالخالق قد بلغ الثلاثين من عمره بعد؛ عندما عُرِض فيلمه الروائيّ الأول "أغنية على الممر" سنة 1972م، والذي يسرد حكاية خمسة جنود مصريين عالقين في الجبهة بعد نكسة يونيو 1967م. كان الفيلم إيذانًا بميلاد مخرج سينمائي موهوب، ونجح نقديًّا إلى حدّ أنه فاز بجائزتين في مهرجانَيْ كارلوفي فاري التشيكي وطشقند الأوزبكي، ورغم أن هذا النجاح سبب كافٍ لمؤسسة تعليمية عريقة كجامعة القاهرة لدعوة بعض صنّاع الفيلم إلى عرض له وندوة عنه في حرمها، إلا أن السبب الأهم لهذه الدعوة بالتأكيد هو موضوعه الوطني، في وقت كانت فيه مصر تلملم جراح هزيمتها في سنة 1967 التي سُمِّيتْ نكسة.
لبى عبدالخالق الدعوة ومعه صلاح السعدني، أحد أبطال الفيلم، والناقد سامي السلاموني. وبعد عرض الفيلم أقيمت الندوة التي حضرها نحو ألف طالب، ولم يحظَ الفيلم منها إلا بعشر دقائق فقط، أما باقي الوقت فقد كرّسه الطلبة للهجوم على الرئيس السادات، وسياسة اللا سلم واللا حرب التي كان ينتهجها في ذلك الوقت، وكانت المظاهرات تعم شوارع القاهرة للمطالبة بإعلان الحرب على إسرائيل. بعد يومين من هذه الندوة وجد عبدالخالق نفسه ممنوعًا من العمل بأوامر من القيادة السياسية، ومعه زميلاه اللذان حضرا الندوة (السعدني والسلاموني) إضافة إلى أسماء أخرى أغلبها من اليسار المصري، منها محمود أمين العالم ولطفي الخولي. يقول عبدالخالق عن تلك الفترة: "عشت وأسرتي ظروفًا بالغة الصعوبة. لا أبالغ إذا قلت إنني كنت أتوقع الاعتقال بين لحظة وأخرى وعاشت أمي وأشقائي لحظات عصيبة".
في هذه الأثناء تلقى مخرج "أغنية على الممر" دعوة لمهرجان سينمائي ينظّم في العراق لأول مرة، وهناك عرض عليه رئيسُ مؤسسة السينما العراقية محمد سعيد الصحاف (الذي سيصبح بعد ذلك أشهر وزير إعلام عربي) منصبَ رئيس وحدة الأفلام التسجيلية العراقية، وطلب منه إخراج فيلم روائي مقابل أعلى أجر يأخذه مخرج أجنبي في العراق، وقد شجّعه الكاتب المصري عبدالرحمن الخميسي رئيس تحرير جريدة الجمهورية العراقية، والمقيم في بغداد آنئذ، على قبول العرض، محذرًا إياه من أنه لن يستطيع العودة للعمل في مصر بسهولة. لكن عبدالخالق اعتذر عن عدم قبول العرض وعاد إلى مصر وقرر مقابلة وزير الثقافة الجديد يوسف السباعي الذي طلب من السادات فك الحظر عنه، وهو ما صار.
استطاع علي عبدالخالق بعد ذلك أن يكرّس اسمه واحدًا من أهم أسماء الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وكانت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي هي فترته الذهبية كمخرج، فقد قدّم فيها أهم أفلامه، ومنها رباعيته المهمة مع السيناريست محمود أبو زيد: "العار" و"الكيف"، و"جري الوحوش"، و"البيضة والحجر". ومنها أيضًا "السادة المرتشون"، و"إعدام ميت"، و"بئر الخيانة"، و"أربعة في مهمة رسمية"، و"الحقونا"، و"الحب وحده لا يكفي". ويكفي أن أسرد دليلًا على نجاح هذه الأفلام أن عبارات منها مازالت تتردد على مسامعنا إلى اليوم. مَن منّا مثلًا ينسى عبارة نور الشريف في "العار": "لو حلال أدينا بنشربه، ولو حرام أدينا بنحرقه"، أو عبارة عزت العلايلي في "بئر الخيانة": "عاش خاين ومات كافر"، أو عبارة أحمد زكي في "البيضة والحجر": "خوف الناس من المستقبل بيسبب لهم قلق، والقلق بيخلق الاستعداد لتقبّل الإيحاء، وفي ظل الإيحاء الناس بتصدّق أي حاجة".
وإذْ نودّع اليوم المخرج السينمائي علي عبدالخالق (الذي رحل عن عالمنا يوم الجمعة عن عمر جاوز ثمانية وسبعين عاما) نتذكّر عبارة قالها في أحد حواراته عن الفيلم الناجح من وجهة نظره، وهو الفيلم الذي تستطيع مشاهدته أكثر من مرة بنفس إحساس المشاهدة الأولى. ولّعَمْري فإن هذا ينطبق على كثير من أفلام عبدالخالق نفسه.
والحق أنه ينبغي لمحبي السينما الجميلة التي سيقدمها عبدالخالق بعد فك الحظر عنه، أن يشاطروه الامتنان، للسباعي أيضًا، وإن اختلفوا معه سياسيّا حول موقفه المؤيِّد للتطبيع، والذي دفع حياته ثمنًا له، حتى قبل أن يشهد توقيع معاهدة كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل. لم يكن عبدالخالق قد بلغ الثلاثين من عمره بعد؛ عندما عُرِض فيلمه الروائيّ الأول "أغنية على الممر" سنة 1972م، والذي يسرد حكاية خمسة جنود مصريين عالقين في الجبهة بعد نكسة يونيو 1967م. كان الفيلم إيذانًا بميلاد مخرج سينمائي موهوب، ونجح نقديًّا إلى حدّ أنه فاز بجائزتين في مهرجانَيْ كارلوفي فاري التشيكي وطشقند الأوزبكي، ورغم أن هذا النجاح سبب كافٍ لمؤسسة تعليمية عريقة كجامعة القاهرة لدعوة بعض صنّاع الفيلم إلى عرض له وندوة عنه في حرمها، إلا أن السبب الأهم لهذه الدعوة بالتأكيد هو موضوعه الوطني، في وقت كانت فيه مصر تلملم جراح هزيمتها في سنة 1967 التي سُمِّيتْ نكسة.
لبى عبدالخالق الدعوة ومعه صلاح السعدني، أحد أبطال الفيلم، والناقد سامي السلاموني. وبعد عرض الفيلم أقيمت الندوة التي حضرها نحو ألف طالب، ولم يحظَ الفيلم منها إلا بعشر دقائق فقط، أما باقي الوقت فقد كرّسه الطلبة للهجوم على الرئيس السادات، وسياسة اللا سلم واللا حرب التي كان ينتهجها في ذلك الوقت، وكانت المظاهرات تعم شوارع القاهرة للمطالبة بإعلان الحرب على إسرائيل. بعد يومين من هذه الندوة وجد عبدالخالق نفسه ممنوعًا من العمل بأوامر من القيادة السياسية، ومعه زميلاه اللذان حضرا الندوة (السعدني والسلاموني) إضافة إلى أسماء أخرى أغلبها من اليسار المصري، منها محمود أمين العالم ولطفي الخولي. يقول عبدالخالق عن تلك الفترة: "عشت وأسرتي ظروفًا بالغة الصعوبة. لا أبالغ إذا قلت إنني كنت أتوقع الاعتقال بين لحظة وأخرى وعاشت أمي وأشقائي لحظات عصيبة".
في هذه الأثناء تلقى مخرج "أغنية على الممر" دعوة لمهرجان سينمائي ينظّم في العراق لأول مرة، وهناك عرض عليه رئيسُ مؤسسة السينما العراقية محمد سعيد الصحاف (الذي سيصبح بعد ذلك أشهر وزير إعلام عربي) منصبَ رئيس وحدة الأفلام التسجيلية العراقية، وطلب منه إخراج فيلم روائي مقابل أعلى أجر يأخذه مخرج أجنبي في العراق، وقد شجّعه الكاتب المصري عبدالرحمن الخميسي رئيس تحرير جريدة الجمهورية العراقية، والمقيم في بغداد آنئذ، على قبول العرض، محذرًا إياه من أنه لن يستطيع العودة للعمل في مصر بسهولة. لكن عبدالخالق اعتذر عن عدم قبول العرض وعاد إلى مصر وقرر مقابلة وزير الثقافة الجديد يوسف السباعي الذي طلب من السادات فك الحظر عنه، وهو ما صار.
استطاع علي عبدالخالق بعد ذلك أن يكرّس اسمه واحدًا من أهم أسماء الواقعية الجديدة في السينما المصرية، وكانت حقبة الثمانينيات من القرن الماضي هي فترته الذهبية كمخرج، فقد قدّم فيها أهم أفلامه، ومنها رباعيته المهمة مع السيناريست محمود أبو زيد: "العار" و"الكيف"، و"جري الوحوش"، و"البيضة والحجر". ومنها أيضًا "السادة المرتشون"، و"إعدام ميت"، و"بئر الخيانة"، و"أربعة في مهمة رسمية"، و"الحقونا"، و"الحب وحده لا يكفي". ويكفي أن أسرد دليلًا على نجاح هذه الأفلام أن عبارات منها مازالت تتردد على مسامعنا إلى اليوم. مَن منّا مثلًا ينسى عبارة نور الشريف في "العار": "لو حلال أدينا بنشربه، ولو حرام أدينا بنحرقه"، أو عبارة عزت العلايلي في "بئر الخيانة": "عاش خاين ومات كافر"، أو عبارة أحمد زكي في "البيضة والحجر": "خوف الناس من المستقبل بيسبب لهم قلق، والقلق بيخلق الاستعداد لتقبّل الإيحاء، وفي ظل الإيحاء الناس بتصدّق أي حاجة".
وإذْ نودّع اليوم المخرج السينمائي علي عبدالخالق (الذي رحل عن عالمنا يوم الجمعة عن عمر جاوز ثمانية وسبعين عاما) نتذكّر عبارة قالها في أحد حواراته عن الفيلم الناجح من وجهة نظره، وهو الفيلم الذي تستطيع مشاهدته أكثر من مرة بنفس إحساس المشاهدة الأولى. ولّعَمْري فإن هذا ينطبق على كثير من أفلام عبدالخالق نفسه.