وفي الحروب التي جرت حتى في القرنين الماضيين فقط، وهذه الصراعات والتوترات استنزفت العالم كله وتضررت دول كثيرة جرت فيها هذه الحروب وهم لا ناقة لهم فيها ولا جمل خاصة الحربين الكونيتين في القرن الماضي، ومنها على سبيل المثال الدول العربية التي تقع في الشمال الأفريقي، مثل مصر وليبيا والمغرب، وجلبت هذه الحروب الأحقاد والضغائن حتى بين شعوب هذه الدول نفسها، التي بدورها أتت بحروب أخرى تالية، نتيجةً من نتائج هذه الأحقاد التي تتغذى على المآسي والصراعات التي وقعت، وتبعث من جديد الكراهية المتبادلة وهكذا، أو ما تسمى عند بعض المندفعين للصراع، بـ(غسل العار)، التي كان من نتائجها خسارة طرف من أطرافها الحرب، أو جولة من جولاتها في هذه الصراعات المأسوية، وللأسف إن الدول الأكثر قوة ومكانة في العالم، هي التي تشعل الحروب والصراعات، والحرائق تصل للدول الآخذة في النمو، فتعيدها إلى مربعها الأول، والتي يتأثر منها كل العالم، نظرا للتشابك الاقتصادي والتجاري وغيرها الكثير من المصالح المتبادلة، ومنها حتى شعوب تلك الدول التي خرجت منها هذه الصراعات، وأدت إلى حروب كبيرة من خلال تحالفات أخرى من دول، ونتذكر الحرب العالمية الأولى، والحرب العالمية الثانية وما خلفتهما من فضائع كبيرة في الدمار وملايين القتلى والجرحى، والحروب الأخرى التي جرت، بعضها نتيجة للظلم الاجتماعي، والتدخلات السياسية التي يتم تغذيتها من أطراف أخرى، لها مصلحة في إثارة النزاعات، وهي نزوات غريبة في العقل الإنساني السوي الذي لا يحكم العقل في هذه النزوات والمرامي الخاصة!

والحرب على أوكرانيا التي بدأت في فبراير الماضي، ما كان لها أن تقوم في الأصل، ولا أسباب موضوعية مؤكدة أن تحدث من قبل روسيا الاتحادية، ولا أن مثلا كأوكرانيا، احتلت أرضا من روسيا الاتحادية والأخيرة تريد استعادتها، بل العكس أن أوكرانيا هي التي خسرت جزيرة القرم التي هي جزء من أراضيها وفق القانون الدولي عام 2014، ثم تم احتلال بعض المقاطعات، بحجة أخرى من أراضي أوكرانيا، وهو أن ما جرى أن بعض الاثنيات من سكانها تطالب بانفصالها، واستقلالها من أوكرانيا، وهذا ما تم بدعم من روسيا الاتحادية. وكل هذه الممارسات والصراعات أضرت بكل الشعوب، نتيجة التجارة البينية مع أوكرانيا، بل أن الحبوب التي انقطعت عن بعض الدول بسبب هذه الحرب، وتعاني منها شعوب كثيرة في العالم، ومنها بعض الدول العربية التي عانت من توقف الاستيراد لهذه الحبوب إليها.

ثم بدأت أزمة الولايات المتحدة مع الصين منذ عدة أسابيع مضت، بسبب زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي «نانسي بيلوسي»، إلى جزيرة تايوان الصينية، التي كانت تحت الحماية من قبل الولايات المتحدة بعد الحرب الكورية في الخمسينيات من القرن الماضي، وتم دعم بعض الزعماء الصينيين للانفصال عن الصين الأم، وكانت مدار توترات مع الولايات المتحدة، لكن الصين ترفض استقلال تايوان عن الصين الشعبية باعتبارها جزءا من أراضيها، وهذه الزيارة فتحت الباب لخلافات أخرى مع الصين، ناهيك عن الخلافات الاقتصادية، وهذه كلها مدعاة ربما لحروب حول مستقبل الجزيرة، وكلها مؤشرات سلبية وقد تؤدي إلى أزمات ومحاور واستقطابات سياسية بين هذه الدول، مع أن العالم بحاجة للوئام والسلام والتعايش، وهي بلا شك تدعو إلى صراعات ولا تخمدها، فالصين مثلا تقف مع روسيا نوعا ما في حربها لأوكرانيا، لكنها لا تؤيد صراحة الحرب الروسية ولا احتلال أراضي أوكرانيا، لكنها ليست مع التسليح الغربي الرأسمالي التي يقدم من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لأوكرانيا.

وهذا الموقف السياسي القائم بعد زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي، بسبب الخلاف التاريخي القائم منذ القرن الماضي، وإن كان توقف لعدة عقود بعد الزيارة الشهيرة للرئيس الأمريكي الأسبق «نيكسون» للصين، والتي مهدت لحل الخلافات القديمة، وأدت إلى انفتاح الصين على الغرب، واستفادت من التقنية الغربية في تطوير صناعاتها الكبيرة، والتي حققت نجاحًا باهرًا على مستوى العالم، وصارت تنافس المنتجات الصناعية الغربية، بل وصلت إلى الغرب وبأسعار يتقبلها الجمهور الغربي، وهذه القدرات الصناعية والمنافسة الكبيرة للصناعات الغربية أدت إلى الخلاف، وهو ما يؤدي إلى الصراع والتوترات.

فلماذا لا تتقدم الحوارات والنقاشات بين هذه الدول لحل خلافتها؟ بدلاً من اتخاذ وسائل دافعة للصراع وتغذيته لقيام حروب تسبب للشعوب الأزمات والمجاعات والخسائر البشرية والمادية؟ ولا شك أن قضية الحوار والتفاهم والتفاوض كلمات جميلة ورائعة وضرورية للحد من الصراعات وتفاقم المشكلات والحروب، والحوار هو الأقدر على إرساء قواعد لحل التوترات، والحوار هو الأفضل منطقيا وعقلانيا، لإيجاد وسائل مقبولة لفتح قنوات الحوارات التي تسهم في الحلول والانسدادات السياسية، وردم الخلافات، ونتذكر أنه في السنوات التي تلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001، عقدت عشرات المؤتمرات والندوات والمحاضرات، تتحدث كلها عن قضية الحوار بين الحضارات، أو الحوار بين الأديان، أو الحوار بين الإسلام والغرب، أو الغرب والشرق، وهذه البحوث والأوراق لا شك أنها تستحق الاهتمام والتقدير، لأنها تناقش الطرق الإيجابية لحل النزاعات والخلافات، لكن الأمر نجده خلاف هذه التمنيات والرغبات من أصحاب العقول والكفاءات العلمية. لكن يبدو أن أهل السياسة والمصالح والهواجس، لهم نظرات ومخططات سرعان ما يتجاهلون كل هذه الأفكار الإيجابية التي تسهم في تقريب الآراء وتبعد النزاع والخلاف. ولا شك أن الضرورات تحتم التقارب والتفاهم، بدلاً من الصدام والصراع الذي أصبح سوقا للمزايدات عند بعض السياسيين، خاصة التيارات اليمينية في الغرب، الذين وجدوا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م، مجالا خصبا للتحريض على العرب بدعوى الصراع والصدام مع عدو جديد، وهذه تهم عامة لا سند لها في الواقع، وإن المسلمين في غالبيتهم رفضوا هذه الهجمات، وتم اعتبارها إرهابية، ولا تمثل الإسلام في رؤيته تجاه الاعتداء على الآمنين الذي لا يبرر العدوان على الآخرين.

فالحوار مع الآخر يعد الطريق الأمثل لحل إشكالية الخلافات التي تجري بين الكثير من دول العالم لأي سبب من الأسباب، ويقدم على الكثير من النوازع السلبية عند بعض النخب السياسية والفكرية، التي كما أشرنا، لا تعطي الحوار المجال الأرحب للنجاح، أو تقديمه على الرؤى الأخرى الدافعة للصدام والنزاع، أو التي لا ترى إلا الصراع والصدام لفرض أفكارها على الآخرين، وهذه هي رأس الأزمات التي تعيشها بعض الدول، دون النظر المعقول لما تجلبه من آثار، على حتى على الدول نفسها التي تحرك التوترات والصدامات مع الدول الأخرى.. ولذلك تتقدم الأفكار وتصادمها عند غياب الحوار الثاقب البعيد عن الأغراض والمرامي السلبية.

ويرى الأكاديمي التونسي د. أبو يعرب المرزوقي في بحثه (مقومات الحوار السوّي بين الحضارات)، أن هذه اللقاءات التي تجري بين المتحاورين في هذه المستويات بعضها أو جميعها، جزئيها أو كليها، إطار يدور فيه الحوار حول موضوع ينتسب إلى أحد مستويات تعيّنها هذه. ويمكن لهذا الأفق أن يتحول إلى كل هلامي ملتبس وغير مخلق لعدم التمييز بين المستويات، فيؤدي في غالب الأحيان إلى عدم التفاهم، ومن ثم إلى الصدام بين الحضارات لا إلى الحوار بينها. فالحضارات بما هي جمل هلامية تكون متنافية بالطبع، لأنها تؤدي عندئذ إلى خلط القيم وتسلُّط الغاصب من المتكلّمين باسمها من دون أهليّة. واللقاء الفعلي بين الحضارات لا يحصل حقًا إلا بحسب أمور جزئية أو كلية تنتسب إلى هذه المستويات التي تكون موضوعًا لحوار بين متحاورين كليهما أهل للحوار في ذلك المستوى، حوار يمكن أن يتجاوز الحدود الحضارية».

ولا شك أن الحوار الجاد المبني على رؤى صادقة من خلال الإقناع والتفاهم والاحترام المتبادل الذي يجري بين المتحاورين، والتجرد والإنصاف لبعضهم دون أن يكون هناك معايير أخرى تناقض منطلقات الحوار وأساسياته، التي يجب على الجميع احترامه عند الحوار، فمعظم الحروب الدامية والصراعات البشرية ما هي إلا نتيجة لانقطاع قنوات الحوار أو فشله في إيجاد الطرق الدافعة للنجاح المأمول، وإزالة الكثير من التوجسات والمرارات القديمة التي يجب النظر إليها نظرة عقلانية بعيدة عن التعصب والاتهام، وهذه ستكون البداية الصحيحة للتفاهم والتقارب وإبعاد أصحاب الأجندات الداعية للصراع والصدام وزيادة الاحتقان والتوتر.