يتردّد كثيرا أن «الجنون فنون» ويُقال أنّ أصل هذه المقولة تعود للحلاج في واحدة من شطحاته الصوفية:
أنــت المليك وما تراه يكون
والذل في حب الحبيب يهون
إن عايروني بالجنـون أجيبهم
أهوى جميلا والجنون فنون
ويبدو أن الدكتور سعدي يونس بحري المسرحي، والكاتب، والفنان الشامل، وجد في المسرح مساحة واسعة لتوجيه رسائل صادمة للمجتمع على لسان مجنون، متّخذا من الجنون مظلّة، فجاء خطابه صريحًا وجريئًا، والمبرّر متوفّر، كون الخطاب يصدر عن مجنون، وما على المجنون من حرج، ولم ينتظر(بحري) مجيء الجمهور إلى المسرح، بل ذهب إليه وخصوصًا في المناطق الفقيرة، فقدّم عروضه التي تندرج ضمن مسرح المونودراما (مسرح الممثل الواحد)، وأذكر حفاوة وسائل الإعلام عندما حوّل قصة (يوميات مجنون) للكاتب الروسي غوغول المنشورة عام ١٨٣٥ إلى مسرحيّة، عرضها في السبعينيات في المقاهي والنوادي، فعرف الناس ببغداد مسرح الشارع، الذي ارتبط بالفقراء والأرصفة، والحياة اليومية، بعيدا عن (العلبة الإيطالية)، فكانت تجربة رائدة، عزّزها في فرنسا من خلال مشاركاته المتعدّدة في مهرجان (افنيون) العالمي الذي يعود تأسيسه إلى عام 1947م، وقدّم ضمن هذا التوجّه المسرحي إلى جانب (المجنون)، العرض المونودرامي الملحمي (جلجامش)، وبعد نجاح (المجنون)، يبدو أن لعبة الجنون قد استهوت د. سعدي يونس بحري، فلم يكتفِ بمجنون غوغول، بل تجاوزه إلى (مجنون) جبران خليل جبران، الكتاب المنشور عام 1918م، باللغة الإنجليزية، الذي يحتوي على 35 حكاية رمزية عميقة، وساخرة في آن واحد، ليقدّم «مسرحا جديدا لجمهور جديد»، كما قال في جلسة بثت عبر (الزوم) عندما استضافه المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح بباريس، حيث يقيم منذ عقود، حملت عنوان«الجنون في المسرح والشعر والفضاء المسرحي الإبداعي» أدارها الفنان حميد عقبي، فوفّرت لي تلك الجلسة فرصة الاستئناس بآرائه، وقراءة كتابه ( مسرحيات مجنونة) الصادر بباريس، الذي ضمّ نصين أعدّهما عن قصّة غوغول، وكتاب جبران خليل جبران، ليمضي بالقارئ في «رحلة مذهلة عبر جنون عملاقين من عمالقة التأمّل في الذات الفلسفية، تلك الذات المتهاوية التي يتعاليان بها عن مفارقة جنونهما الحكيم »، كما كتب إدريس جابر في مقدمة الكتاب، الذي صدّره بجملة ذات مغزى واضح هي« من أجل جنون مبدع»، ساعيًا في المسرحيتين الانطلاق من الذات إلى الآخر، تحت مظلّة جنون لا يخلو من الحكمة.
لقد قام بمسرحة قصّة غوغول التي استعرض فيها معاناة موظف بائس مهمّش، ومن سير الأحداث، يتكشّف للجمهور أنّه مصاب بمرض ( انفصام الشخصيّة)، ويعاني من أزمات جعلته يقف على حافة الجنون. وجاء النص مكتوبًا على شكل يوميات تبدأ في الثالث من (تشرين الأول/ أكتوبر)، عندما ينهض من النوم متأخّرا، ويتذكّر مسؤوله في القسم عندما أنبّه ذات يوم متّهما إياه بالارتباك الدائم، والتعجّل بالأمور كالمجنون، في إشارة خفيّة تؤكّد أن المحيط هو الّذي وضعه في هذا الإطار، وتنتهي بعد شهر (شباط/ فبراير) في مصحّة بعد أن أعلن أنه ملك إسبانيا، فيلجأ إلى أمّه مخاطبا إياها « أمي الحبيبة انقذي ابنك المسكين، اذرفي دمعة على رأسه المريض، انظري عذاباته، ضمّيه إلى صدرك، يتيمك الوحيد لا يوجد عنده مكان فوق الأرض».
ويبدأ النص الثاني الذي حمل عنوان (الليل والمجنون) بتساؤلات فلسفية يطلقها البطل (المجنون) في مشهد صلبه: من عيار «لماذا يقع في رقبتنا هذا الدم المهدور؟ إذا لم تصلبوا المجانين، فليس لكم أي كبرياء، هل تعتقد أيها المهبول بأنك قادر على شراء المجد الكوني بهذا الثمن البخس؟» لتتعاقب المشاهد التي حملت عناوين فرعية: صلب المجنون، الفزاعة، الوجوه، الخليفة العاقل، الناسكان، ولكن كيف أصبحت مجنونا؟ الكلب النبيه، في المستشفى، العالم الكامل، الليل والمجنون، الذوات السبع، النائمتان، البهجة والكآبة، الدفان، الحنان العظيم. وقد احتوت تلك المشاهد على مضامين إنسانية، وقد سبق للراحل قاسم محمد أن أعدّ كتاب جبران وقدّمه في بغداد عام 1997، وكذلك أخرجه الراحل حامد خضر، وقد شاهدت النص الذي أعدّه الراحل قاسم محمد على المسرح في الشارقة عندما قدّمه المخرج محمد العامري، ضمن (أيّام الشارقة المسرحية ٢٠١٩)، ونال عدّة جوائز من بينها: أفضل عرض متكامل، وكان الاشتغال البصري قد نطق بالجنون أكثر من بطله الذي من سياق الأحداث يتّضح للجمهور أنه من صنف «العباقرة الذين يصابون بالجنون»، كما وصف آل باتشينو، وهو الصنف ذاته الذي ظهر عليه مجنون د.سعدي يونس بحري.
أنــت المليك وما تراه يكون
والذل في حب الحبيب يهون
إن عايروني بالجنـون أجيبهم
أهوى جميلا والجنون فنون
ويبدو أن الدكتور سعدي يونس بحري المسرحي، والكاتب، والفنان الشامل، وجد في المسرح مساحة واسعة لتوجيه رسائل صادمة للمجتمع على لسان مجنون، متّخذا من الجنون مظلّة، فجاء خطابه صريحًا وجريئًا، والمبرّر متوفّر، كون الخطاب يصدر عن مجنون، وما على المجنون من حرج، ولم ينتظر(بحري) مجيء الجمهور إلى المسرح، بل ذهب إليه وخصوصًا في المناطق الفقيرة، فقدّم عروضه التي تندرج ضمن مسرح المونودراما (مسرح الممثل الواحد)، وأذكر حفاوة وسائل الإعلام عندما حوّل قصة (يوميات مجنون) للكاتب الروسي غوغول المنشورة عام ١٨٣٥ إلى مسرحيّة، عرضها في السبعينيات في المقاهي والنوادي، فعرف الناس ببغداد مسرح الشارع، الذي ارتبط بالفقراء والأرصفة، والحياة اليومية، بعيدا عن (العلبة الإيطالية)، فكانت تجربة رائدة، عزّزها في فرنسا من خلال مشاركاته المتعدّدة في مهرجان (افنيون) العالمي الذي يعود تأسيسه إلى عام 1947م، وقدّم ضمن هذا التوجّه المسرحي إلى جانب (المجنون)، العرض المونودرامي الملحمي (جلجامش)، وبعد نجاح (المجنون)، يبدو أن لعبة الجنون قد استهوت د. سعدي يونس بحري، فلم يكتفِ بمجنون غوغول، بل تجاوزه إلى (مجنون) جبران خليل جبران، الكتاب المنشور عام 1918م، باللغة الإنجليزية، الذي يحتوي على 35 حكاية رمزية عميقة، وساخرة في آن واحد، ليقدّم «مسرحا جديدا لجمهور جديد»، كما قال في جلسة بثت عبر (الزوم) عندما استضافه المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح بباريس، حيث يقيم منذ عقود، حملت عنوان«الجنون في المسرح والشعر والفضاء المسرحي الإبداعي» أدارها الفنان حميد عقبي، فوفّرت لي تلك الجلسة فرصة الاستئناس بآرائه، وقراءة كتابه ( مسرحيات مجنونة) الصادر بباريس، الذي ضمّ نصين أعدّهما عن قصّة غوغول، وكتاب جبران خليل جبران، ليمضي بالقارئ في «رحلة مذهلة عبر جنون عملاقين من عمالقة التأمّل في الذات الفلسفية، تلك الذات المتهاوية التي يتعاليان بها عن مفارقة جنونهما الحكيم »، كما كتب إدريس جابر في مقدمة الكتاب، الذي صدّره بجملة ذات مغزى واضح هي« من أجل جنون مبدع»، ساعيًا في المسرحيتين الانطلاق من الذات إلى الآخر، تحت مظلّة جنون لا يخلو من الحكمة.
لقد قام بمسرحة قصّة غوغول التي استعرض فيها معاناة موظف بائس مهمّش، ومن سير الأحداث، يتكشّف للجمهور أنّه مصاب بمرض ( انفصام الشخصيّة)، ويعاني من أزمات جعلته يقف على حافة الجنون. وجاء النص مكتوبًا على شكل يوميات تبدأ في الثالث من (تشرين الأول/ أكتوبر)، عندما ينهض من النوم متأخّرا، ويتذكّر مسؤوله في القسم عندما أنبّه ذات يوم متّهما إياه بالارتباك الدائم، والتعجّل بالأمور كالمجنون، في إشارة خفيّة تؤكّد أن المحيط هو الّذي وضعه في هذا الإطار، وتنتهي بعد شهر (شباط/ فبراير) في مصحّة بعد أن أعلن أنه ملك إسبانيا، فيلجأ إلى أمّه مخاطبا إياها « أمي الحبيبة انقذي ابنك المسكين، اذرفي دمعة على رأسه المريض، انظري عذاباته، ضمّيه إلى صدرك، يتيمك الوحيد لا يوجد عنده مكان فوق الأرض».
ويبدأ النص الثاني الذي حمل عنوان (الليل والمجنون) بتساؤلات فلسفية يطلقها البطل (المجنون) في مشهد صلبه: من عيار «لماذا يقع في رقبتنا هذا الدم المهدور؟ إذا لم تصلبوا المجانين، فليس لكم أي كبرياء، هل تعتقد أيها المهبول بأنك قادر على شراء المجد الكوني بهذا الثمن البخس؟» لتتعاقب المشاهد التي حملت عناوين فرعية: صلب المجنون، الفزاعة، الوجوه، الخليفة العاقل، الناسكان، ولكن كيف أصبحت مجنونا؟ الكلب النبيه، في المستشفى، العالم الكامل، الليل والمجنون، الذوات السبع، النائمتان، البهجة والكآبة، الدفان، الحنان العظيم. وقد احتوت تلك المشاهد على مضامين إنسانية، وقد سبق للراحل قاسم محمد أن أعدّ كتاب جبران وقدّمه في بغداد عام 1997، وكذلك أخرجه الراحل حامد خضر، وقد شاهدت النص الذي أعدّه الراحل قاسم محمد على المسرح في الشارقة عندما قدّمه المخرج محمد العامري، ضمن (أيّام الشارقة المسرحية ٢٠١٩)، ونال عدّة جوائز من بينها: أفضل عرض متكامل، وكان الاشتغال البصري قد نطق بالجنون أكثر من بطله الذي من سياق الأحداث يتّضح للجمهور أنه من صنف «العباقرة الذين يصابون بالجنون»، كما وصف آل باتشينو، وهو الصنف ذاته الذي ظهر عليه مجنون د.سعدي يونس بحري.