**media[2092809]**
خيط شديد الملمس يربط بين "النازكتين"؛ الملائكة والعابد، هذا الخيط هو الثورة؛ الثورة على التقاليد والجهل والعبودية وعلى التاريخ. ولدت شاعرتنا الجميلة نازك الملائكة في 23 أغسطس 1923م، لعائلة عراقية مثقفة من جهتي الأب والأم، وأطلق عليها والدها ذلك الاسم تيمنًّا بالمناضلة نازك العابد، وقد ترك ذلك أثره في مسار حياة شاعرتنا تأثيرًا مناسبا منذ مولدها وحتى تاريخ وفاتها في مدينة القاهرة في 20 يونيو 2007. أما نازك العابد (1887-1959م) فهي كما يُشير محرّك البحث جوجل مناضلة سورية من دمشق، وأنها قادت الحركة النسائية وطالبت بإعطاء المرأة السورية حقوقها السّياسية، ولَعِبت دورًا رياديًا في تأسيس عدد من المطبوعات والجمعيات النسائية، كما شاركت في معركة ميسلون ضد الاحتلال الفرنسي.
فإذا كان قدر العابد السير على طريق النضال المدنيّ والعسكري لتحرير سورية مجسَّدة ذلك بالخوض في معركة "العنف الذي يصاحب التغيير" بتعبير حنَّة أرِنْدت، فإن قدر نازك الملائكة أن تخوض حربا إبداعية لتسجّل بذلك أحد مداخل الحداثة الشعرية العربية. تركت نازك العديد من المؤلفات منها سبع مجموعات شعرية هي: "عاشقة الليل 1947م، شظايا ورماد 1949م، قرارة الموجة 1957م، شجرة القمر 1968م، ويغير ألوانه البحر 1968م، ومأساة الحياة وأغنية للإنسان 1970م، والصلاة والثورة 1978م، إلى جانب عدد من النتاجات الأدبية والنقدية المختلفة، منها كتابها الأبرز؛ قضايا الشعر المعاصر 1962م، وسيكولوجية الشعر 1992م، والتجزيئية في المجتمع العربي 1974م، وغيره من الدراسات.
من ناحية أخرى، الناظر إلى مجمل ما قدمته نازك من ثورة في الشعر، سيظل مثار جدل، وأتفق مع ما ذهب إليه شوقي بن حسن ضمن مقالته (نازك الملائكة: العزلة في عالم بلا حدود آمنة) عندما كتب قائلا: "باختصار، تُذكر الملائكة في سياق الفرضيات التأسيسية لما يُعرف بقصيدة التفعيلة والتي كانت تفضّل هي أن تسمّيها بـ"الشعر الحرّ"، ومن المعلوم أن هذا الخطّ مثّل أحد أهم لحظات التغيير في التاريخ الطويل للشعر العربي"، لكن حسب اعتقادي فإن ثورة الملائكة لم تكن مع الشعر وحده، بل مع منظومة النسق الثقافي للمجتمع العربي ككل.
تضعنا تجربة نازك أمام احتمالين يصعب فكهما أو فصلهما عن بعضهما بعضا:
أولاهما: تتبع تجربة نازك كامرأة مثقفة عاشت في بيئة ثقافية مرموقة، متنقلة بعد ذلك من العراق إلى الكويت إلى القاهرة بكل الحمولة التاريخية والثقافية لتخوض معركة الحداثة مخلخلة الصورة الذهنية النمطية للمرأة العربية الشاعرة. فكم من امرأة تشابهت ظروف نشأتها مع الملائكة في بيئات عربية أو بدوية أو حضرية هادفة إلى تأسيس مفاهيم التمرد والاستقلال وإثبات الذات؟
ثانيتهما: الإنصات لطبيعة النص الشعري لنازك الملائكة في ضوء تجربة الأدب العربي الحديث، ضمن محيط اجتماعي ذكوري، يُشجع المرأة ويفتح لها الأبواب، لكنه قد يُخفي في أعماقه النظرة الغريبة للجندر وإكراهاته.
وفي هذا السياق، ما الذي ظل من تقديرنا لجميع التحولات المفصليَّة لشعرية نازك الملائكة؟ ما الذي ظل من تجربتها وخروجها على التقاليد؟ أليس الموقف النقدي يتطلّب النظر الفاحص في قراءة موقع نازك الإنسانة التجربة/ الخروج/ والميثاق في ظل التحولات النسقية الثقافية لواقع المرأة العربية في العالم ككل؟ ونستذكر هنا ربط الديب عباس محمود العقاد في رؤيته للشعر منطلقا من أن الشعر مكون رئيس لمعرفة الذات، وبالتالي معرفة العالم كله؟ فأين الدرس الشعري المعاصر من هذا النموذج الثري؟ وأين هي الدراما الراصدة للتحولات الجوهرية لهذه التجربة؟
من خلال ما تم رصده من مؤلفات لنازك الملائكة، سأقف عند كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي) الصادرة طبعته الأولى عن دار العلم للملايين ببيروت في ربيع الثاني 1394هـ الموافق مايو 1974م، والمكون بين ظلفتي الغلاف من ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: يتضمن مقدمة حول المجتمع العربي وهذه المباحث: "التجزيئية في المجتمع العربي، المرأة بين الطرفين السلبية والأخلاق، مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية، طريق الفرد العربي إلى فلسطين"، بينما يتكون القسم الثاني الذي يدور حول القومية العربية من ثلاثة مباحث على النحو التالي: "القومية العربية والحياة، القومية العربية والمتشككون، وأخطاء شائعة في تعريف الأدب القومي"، ثم القسم الثالث المعنون بين الأدب والمجتمع وتتنزّل فيه هذه المباحث: "الأدب والغزو الفكري، محاذير في ترجمة الفكر الغربي، الأديب والمجتمع، شخصية الآخرين في الأغاني العراقية، والعطش والتعطش في الأغاني العراقية."
وإذّ تُعيدني أقسام الكتاب إلى مرتكزات النهضة العربية الثقافية وسؤال الحداثة والأصالة، واللحاق بالغرب أو التحصّن بالتراث وسعي المفكرين العرب إلى تأصيل ما لا يؤصل، فإنّ كتاب نازك الملائكة يُصب في تلك المنعطفات المهمة لجذور الحداثة الفكرية في الشّعر والمجتمع، فالحرية الاجتماعية مرتبطة ارتباطا متصلا بالحرية الفردية، والإبحار عكس هذا المبدأ هو مضيعة للوقت.
ولهذا، تذكر الملائكة في تقديمها للكتاب أن "فكرة التجزيئية تسري في أكثر أبحاث هذا الكتاب، فهي ظاهرة اجتماعية عامة تسيطر على الفكر العربي والحياة العربية"، منطلقة لتوضيح معنى التجزيئية من خلال مشاهدتها للإنسان وللفكر العربي عموما، "حيث نجد الفرد إجمالا يَفْصِل مَا لَا يَنْفصِلُ فيقع نتيجة لذلك في تناقضات واضحة ومشكلات ما كان ليُصاب بها لولا هذه التجزئة في مَا لا ينبغي أن يُجزأ"
إن أقسام الكتاب كما تقول المؤلفة "كتبتها في ظروف متفرقة ما بين 1953م و1969م، والسنة الأخيرة على وجه الخصوص تذكرنا بإشعال النيران في أحد جهات المسجد الأقصى، وعليه فالناظر اليوم إلى الكتاب، يمكنه أن يعدّه محاولة للإجابة عن العديد من الأسئلة والأفكار ومظاهر التفكك والتخلخل والشعور بالتراجع على أصعدة متباينة يعيشها الإنسان والفكر العربي! ويمكن للقارئ التوصل إلى أن مشكلات مجتمعاتنا في الوطن العربي المعاصرة، هي امتداد لمشكلات سياسية وثقافية وسوسيولوجيا عميقة الجذور، ولم يحدث بشأنها التطور الكبير المطلوب.
خيط شديد الملمس يربط بين "النازكتين"؛ الملائكة والعابد، هذا الخيط هو الثورة؛ الثورة على التقاليد والجهل والعبودية وعلى التاريخ. ولدت شاعرتنا الجميلة نازك الملائكة في 23 أغسطس 1923م، لعائلة عراقية مثقفة من جهتي الأب والأم، وأطلق عليها والدها ذلك الاسم تيمنًّا بالمناضلة نازك العابد، وقد ترك ذلك أثره في مسار حياة شاعرتنا تأثيرًا مناسبا منذ مولدها وحتى تاريخ وفاتها في مدينة القاهرة في 20 يونيو 2007. أما نازك العابد (1887-1959م) فهي كما يُشير محرّك البحث جوجل مناضلة سورية من دمشق، وأنها قادت الحركة النسائية وطالبت بإعطاء المرأة السورية حقوقها السّياسية، ولَعِبت دورًا رياديًا في تأسيس عدد من المطبوعات والجمعيات النسائية، كما شاركت في معركة ميسلون ضد الاحتلال الفرنسي.
فإذا كان قدر العابد السير على طريق النضال المدنيّ والعسكري لتحرير سورية مجسَّدة ذلك بالخوض في معركة "العنف الذي يصاحب التغيير" بتعبير حنَّة أرِنْدت، فإن قدر نازك الملائكة أن تخوض حربا إبداعية لتسجّل بذلك أحد مداخل الحداثة الشعرية العربية. تركت نازك العديد من المؤلفات منها سبع مجموعات شعرية هي: "عاشقة الليل 1947م، شظايا ورماد 1949م، قرارة الموجة 1957م، شجرة القمر 1968م، ويغير ألوانه البحر 1968م، ومأساة الحياة وأغنية للإنسان 1970م، والصلاة والثورة 1978م، إلى جانب عدد من النتاجات الأدبية والنقدية المختلفة، منها كتابها الأبرز؛ قضايا الشعر المعاصر 1962م، وسيكولوجية الشعر 1992م، والتجزيئية في المجتمع العربي 1974م، وغيره من الدراسات.
من ناحية أخرى، الناظر إلى مجمل ما قدمته نازك من ثورة في الشعر، سيظل مثار جدل، وأتفق مع ما ذهب إليه شوقي بن حسن ضمن مقالته (نازك الملائكة: العزلة في عالم بلا حدود آمنة) عندما كتب قائلا: "باختصار، تُذكر الملائكة في سياق الفرضيات التأسيسية لما يُعرف بقصيدة التفعيلة والتي كانت تفضّل هي أن تسمّيها بـ"الشعر الحرّ"، ومن المعلوم أن هذا الخطّ مثّل أحد أهم لحظات التغيير في التاريخ الطويل للشعر العربي"، لكن حسب اعتقادي فإن ثورة الملائكة لم تكن مع الشعر وحده، بل مع منظومة النسق الثقافي للمجتمع العربي ككل.
تضعنا تجربة نازك أمام احتمالين يصعب فكهما أو فصلهما عن بعضهما بعضا:
أولاهما: تتبع تجربة نازك كامرأة مثقفة عاشت في بيئة ثقافية مرموقة، متنقلة بعد ذلك من العراق إلى الكويت إلى القاهرة بكل الحمولة التاريخية والثقافية لتخوض معركة الحداثة مخلخلة الصورة الذهنية النمطية للمرأة العربية الشاعرة. فكم من امرأة تشابهت ظروف نشأتها مع الملائكة في بيئات عربية أو بدوية أو حضرية هادفة إلى تأسيس مفاهيم التمرد والاستقلال وإثبات الذات؟
ثانيتهما: الإنصات لطبيعة النص الشعري لنازك الملائكة في ضوء تجربة الأدب العربي الحديث، ضمن محيط اجتماعي ذكوري، يُشجع المرأة ويفتح لها الأبواب، لكنه قد يُخفي في أعماقه النظرة الغريبة للجندر وإكراهاته.
وفي هذا السياق، ما الذي ظل من تقديرنا لجميع التحولات المفصليَّة لشعرية نازك الملائكة؟ ما الذي ظل من تجربتها وخروجها على التقاليد؟ أليس الموقف النقدي يتطلّب النظر الفاحص في قراءة موقع نازك الإنسانة التجربة/ الخروج/ والميثاق في ظل التحولات النسقية الثقافية لواقع المرأة العربية في العالم ككل؟ ونستذكر هنا ربط الديب عباس محمود العقاد في رؤيته للشعر منطلقا من أن الشعر مكون رئيس لمعرفة الذات، وبالتالي معرفة العالم كله؟ فأين الدرس الشعري المعاصر من هذا النموذج الثري؟ وأين هي الدراما الراصدة للتحولات الجوهرية لهذه التجربة؟
من خلال ما تم رصده من مؤلفات لنازك الملائكة، سأقف عند كتابها (التجزيئية في المجتمع العربي) الصادرة طبعته الأولى عن دار العلم للملايين ببيروت في ربيع الثاني 1394هـ الموافق مايو 1974م، والمكون بين ظلفتي الغلاف من ثلاثة أقسام؛ القسم الأول: يتضمن مقدمة حول المجتمع العربي وهذه المباحث: "التجزيئية في المجتمع العربي، المرأة بين الطرفين السلبية والأخلاق، مآخذ اجتماعية على حياة المرأة العربية، طريق الفرد العربي إلى فلسطين"، بينما يتكون القسم الثاني الذي يدور حول القومية العربية من ثلاثة مباحث على النحو التالي: "القومية العربية والحياة، القومية العربية والمتشككون، وأخطاء شائعة في تعريف الأدب القومي"، ثم القسم الثالث المعنون بين الأدب والمجتمع وتتنزّل فيه هذه المباحث: "الأدب والغزو الفكري، محاذير في ترجمة الفكر الغربي، الأديب والمجتمع، شخصية الآخرين في الأغاني العراقية، والعطش والتعطش في الأغاني العراقية."
وإذّ تُعيدني أقسام الكتاب إلى مرتكزات النهضة العربية الثقافية وسؤال الحداثة والأصالة، واللحاق بالغرب أو التحصّن بالتراث وسعي المفكرين العرب إلى تأصيل ما لا يؤصل، فإنّ كتاب نازك الملائكة يُصب في تلك المنعطفات المهمة لجذور الحداثة الفكرية في الشّعر والمجتمع، فالحرية الاجتماعية مرتبطة ارتباطا متصلا بالحرية الفردية، والإبحار عكس هذا المبدأ هو مضيعة للوقت.
ولهذا، تذكر الملائكة في تقديمها للكتاب أن "فكرة التجزيئية تسري في أكثر أبحاث هذا الكتاب، فهي ظاهرة اجتماعية عامة تسيطر على الفكر العربي والحياة العربية"، منطلقة لتوضيح معنى التجزيئية من خلال مشاهدتها للإنسان وللفكر العربي عموما، "حيث نجد الفرد إجمالا يَفْصِل مَا لَا يَنْفصِلُ فيقع نتيجة لذلك في تناقضات واضحة ومشكلات ما كان ليُصاب بها لولا هذه التجزئة في مَا لا ينبغي أن يُجزأ"
إن أقسام الكتاب كما تقول المؤلفة "كتبتها في ظروف متفرقة ما بين 1953م و1969م، والسنة الأخيرة على وجه الخصوص تذكرنا بإشعال النيران في أحد جهات المسجد الأقصى، وعليه فالناظر اليوم إلى الكتاب، يمكنه أن يعدّه محاولة للإجابة عن العديد من الأسئلة والأفكار ومظاهر التفكك والتخلخل والشعور بالتراجع على أصعدة متباينة يعيشها الإنسان والفكر العربي! ويمكن للقارئ التوصل إلى أن مشكلات مجتمعاتنا في الوطن العربي المعاصرة، هي امتداد لمشكلات سياسية وثقافية وسوسيولوجيا عميقة الجذور، ولم يحدث بشأنها التطور الكبير المطلوب.