قال بورخيس مرة متحدثا عن أسلوب كتابته:" إنه الجمع بين أسلوب يقترب أحيانا من الشفاهي وحبكة مستحيلة" دون أن ننسى أنه يكتب لغة بسطية بلاغتها غير ظاهرة، وتشبه الحكي، ولكن من أين استمد بورخيس هذا الأسلوب؟ لن نحتار في البحث عن إجابة حين نتذكر ألف ليلة وليلة، فعلاقة بورخيس بألف ليلة ممتدة وغزيرة. ممتدة لأنها دامت ما يقرب من ثمانية عقود، منذ طفولته المبكرة وحتى مماته عن عمر يناهز السابعة والثمانين. . وغزيرة في مناح ثلاث: الأول يختص بوفرة قراءات بوخيس لترجمات ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية والإسبانية والفرنسية والألمانية. والمنحى الثاني هو صدى ألف ليلة في الأعمال الشعرية والقصصية لديه. ويتعلق المنحى الثالث بمقالاته ودراساته ومقدمات كتبه التي يتناول فيها بشكل أو بآخر محتوى ألف ليلة وبنيتها. ولكن لماذا نستحضر بورخيس في الحديث عن تأثير ألف ليلة وليلة في الرواية العالمية رغم أنه لم يعرف عنه أنه كتب أي رواية في حياته؟ السبب لأن ثمة قصصا بورخيسية استفاد منها روائيون عالميون، هناك من اعترف صراحة بذلك مثل السيميائي والروائي الإيطالي المعروف أمبرتو أيكو صاحب الرواية الأكثر شهرة " اسم الوردة" التي بيع منها في سنواتها الأولى حوالي 52 مليون نسخة. اعترف إيكو بتأثير بورخيس في كتابة اسم الوردة تأثيرا مباشرا. وكان هذا الاعتراف مهما في اصطياد التأثير غير المباشر لألف ليلية وليلة على بروز رواية حديثة حازت شهرة طبقت الآفاق. وإذا كان أمثال أمرتو إيكو قلة من الذين يعترفون بتأثير بورخيس على كتاباتهم، مثل ما فعل صاحب رواية الحجلة الروائي الأرجنتيني خوليو كولتثار حين اعترف لبورخيس بالفضل في كتابة رواية ضخمة الحجم، والغريب إن بورخيس لا يحب الروايات الضخمة، ولكن كولتثار استطاع انطلاقا من بورخيس وعوالمه المتأثرة بألف ليلة أن يصيغ بنية دائرية متولدة، شبيهة بتلك الأجواء التي امتحها بورخيس من كتاب الليالي العربية. اللانهائي هو إضافة ليلة واحدة بعد الألف كما قال بورخيس يوما، لذلك فإن لعبة كولتيثار كادت ألا تتوقف لو لم يتدخل في وضع النقطة في نهايتها بعد أن عبر بقارئه أكثر من سبع مائة صفحة، ساعده في هذه الغزارة ذلك المحو للفواصل بين عالم الحقيقة وعالم الخيال، وهو ما ساعد ألف ليلة وليلة كذلك في أن تكون بهذا العدد الوافر من الليالي، حتى أنها كاد أن يكون كتابا لانهائيا، ليس في دلالاته أنما حتى في عدد صفحاته ( عبدالفتاح كيليطو يقول إن كتاب ألف ليلة وليلة ما زال يكتب حتى الآن) .

كاتب آخر أكثر حداثة وقد نال شهرة كبيرة بسبب تمطيطه لقصة قصيرة وردت في ألف ليلة وليلة وقد عنون روايته بالخيميائي، وهو الكاتب البرازيلي باولو كويلهو، لم أقرأ لكويلهو إنه اعترف بفضل كتاب ألف ليلة وليلة، ولكن – لاشك عندي- إنه قد أخذ الفكرة عن بورخيس، حيث وجدت قصة شبيه في كتاب المرايا والمتاهات الذي ترجمه المترجم المغربي إبراهيم الخطيب عن دار توبقال في منتصف التسعينيات. بورخيس قرأ ألف ليلة وكتب قصته في صفحات قليلة، بينما كويلهو قرأت قصة بورخيس وكتب رواية في حوالي مائتي صفحة. وكانت رواية ممتعة بسبب متعة الحكي الممتح من ألف ليلة، وقد نالت شهرة واسعة في أنحاء العالم، بعد أن أضاف إليها كويلهو مجموعة من البهارات الشرقية المتنوعة. مرة كتبت عن هذا الموضوع في صفحتي في الفيس بوك، فتحمس الناقد المعروف سعيد يقطين بكتابة مقال في القدس العربي يؤيد ما ذهبت إليه. لا شك أن تتبع تأثير ألف ليلة وليلة على كتاب العالم، سواء ذلك التأثير المباشر أو غير المباشر يصعب حصره، بل إني أحيانا أقع على روايات تمت ترجمتها مؤخرا تتماهى مع أسلوب ألف ليلة وليلة سواء في التقديم التشويقي للحدث أو تلك البنية الانشطارية التي عرف بها كتاب الليالي. لن يمر زمن قريب أو مقبل دون أن يكون لكتاب "الليالي العربية" كما ترجمه أنطوان غالان أول مرة إلى الفرنسية في بداية القرن الثامن عشر، إلا ونعثر بين طيات ما يكتب ويترجم تأثيرا لهذا الكتاب السحري، الذي أبهر العالم وغير حتى من مسار الرواية ذات الطابع الرومانسي وكان السبب في اكتشاف نمط جديد في الكتابة الواقعية بمزجها بمعطيات الخيال، كما فعل مثلا جابرييل جارسيا ماركيز في روايته الشهيرة مائة عام من العزلة، ومن يقرأ هذه الرواية أيضا سيرى بساطا سحريا يطير وسيرى تأثيرا واضحا لكتاب ألف ليلة وليلة، وقد اعترف ماركيز بذلك حين كتب مذكراته التي حملت عنوان "عشت لأروي". لقد حصلت إذن ألف ليلة وليلية على جائزة نوبل أكثر من مرة، ولكن بطريقة غير مباشرة.