الليل مادة الحلم وحِبر الكتابة، تَردُّدٌ بين النوافذ المشرعة على النميمة والأبواب المغلقة على السِّر. لا بداية لتاريخه الذي يصنع التاريخ ولا نهاية له، هو المواظب منذ الأزل على مواقيته المتقنة في حضوره وانصرافه اليومي، وهو الجديد أبداً كالنهار الذي يعقبه (الجديدان) كما في تراثنا العربي:

إن الجديدَين في طول اختلافهما

لا يفسدان ولكن يفسدُ الناسُ... (الخنساء).

ولكن من يجرؤ على كتابة تاريخ هذا الليل دون أن يغيب في تضاريسه بلا عودة، دون أن يهوي في بئر مكشوفة الظلام، ودون أن تخطفه رفَّة ناعسة فلا يعود له بعدها من أثر تحت شمس الصباح؟! ألذا لا أكتب الآن عنه إلا وقوفًا على مسافة آمنة منه تتيح لي أن أتقمَّص صوره واستعاراته؟ أكتب عنه بحبره الدمويّ في النهار، وأحياه كاملًا بكاملي في الليل، مُسرَّحاً من وظائفي المدفوعة الأجر، حُرًا من واجبات النهار المسرحي الطويل... إلى أن أستسلم للحظة التي يقول فيها قاسم حداد: «جسدي تراث الليل»!

ألتقي بنفسي في ما تبقى من يومها على طرف المساء، حالمًا بليل لا إكراه فيه، تمنحنا إياه المؤسسات والشركات في ثلاث ساعات أو يزيد قليلًا لنجرّب سيادتنا على وقتنا الشخصي المقتطع من وقت الإنتاج، وذلك قُبيل الذهاب في النوم الانتحاري الذي لن نحيا من بعده إلا لندير رحى «التنمية» على أصابعنا وعواطفنا وأحلامنا في صباح اليوم التالي. هذا هو ليلنا المعاصر الذي بدأ يتقاصر منذ أن غادره الجاهليون القدامى خلف الكواكب البطيئة التي يجرها النابغة الذبياني. نسهره لنطيل أعمارنا على حدة أو مع من نحب، ونكثف في عتمته حصتنا من الحياة التي لا يزيدها النوم إلا نقصانًا. نسهره في منتصف الأسبوع احتجاجًا على دورة الزمن الإنتاجي التي لا ترحم.

والليل هو الليل نفسه منذ الأزل، بريئًا مما لحق به من آثار عصر السرعة الإلكتروني، محافظًا في القرى النائية وله صفاته العذرية الأولى في البراري المكشوفة على السماوات المطرزة بعيدًا عن الحياة المدينية التي تستنزف عمره. وما زال يهيمن شعريًا على الوجود، ويزورنا كاستعارة مارقة لهذه اللفظة (ليل) التي نعثر عليها في أغلب اللغات السامية. وهو في المعاجم العربية ليس مجرد ظرف زمني يمتد من غروب الشمس حتى طلوعها؛ بل الليل هو ظلام الليل أيضًا كما يمكن القول عن النهار بأنه الضوء والنور، وفقًا لابن منظور. ومن الليل خُلقت «ليلى» أبعد النساء المستحيلات في الخيال العربي.

شخصيًا، لم أكن لأفكر كتابةً قبل اليوم بصور الليل وتصاويره المتشعبة في مخيال الشعر العربي على امتداد تاريخ طويل من الأرق الذي يسكن هذا الشعر، لكن عبدالله البردوني الذي يحضرني كثيرًا في هذه الأيام، على نحو إرادي وغير إرادي، بمناسبة ذكرى رحيله أو بدونها، يأبى إلا أن يفاجئني بصورة جديدة من صور لياليه التي يهجع فيها الجرحى والجوعى ليستيقظ فيها لصوص القرن العشرين وقطَّاع الطرق. ها هو ذا يباغتني بـ«ليل خريفي» يأتي في أحد مطالعه:

الليلُ خريفيٌ أرعنْ

يهمي، يدوي، يرمي، يطعنْ... (قصيدة: لصٌ تحت الأمطار).

ليل خريفي... هذا هو الليل الذي لم يهذِ به شاعر عربي من قبل في ذاكرتي الشعرية! والليل في شعر البردوني قديم قِدم الليل والشعر نفسه، يُشكِّل ملامحه ببراعة نحَّات أعمى يحرك إصبعه في كتلة من الظلام المطبق فيسفر الليل عن وجوه رجال ونساء يخرجون تباعًا من الرخام ودخان الخرافة. ويستلهم البردوني مناخات ليله ودلالاته من تراثه الشعري الذي لا يتعامل مع اختلاف الليل والنهار كمبدأ يومي من مبادئ دورة الطبيعة على نفسها فحسب؛ بل يرى في هذا التعاقب الكوني تعاقبات نفسية عميقة مقرونة بتغيرات المشهد البصري المتدرّج بين النور والظل، بين الليل والنهار. ومن هنا تبرز الضرورة النقدية في مراقبة تحولات الليل في مزاج الشعرية العربية عبر مراحلها الزمنية المتصاعدة، وذلك من أجل الوصول إلى «الكيفية التي أثَّر بها التاريخ على مضمون الإنسان» كما يقول الناقد الفلسطيني الراحل يوسف اليوسف في كتابه الثمين «بحوث في المعلقات».

وبالرغم من التحولات الشعرية الكبرى التي طرأت على أساليب التصوير الفني في القصيدة العربية، منذ المعلقات الجاهلية إلى قصيدة النثر في القرن الحادي والعشرين، إلا أن ليل امرئ القيس ما زال يمثل مادة مشعة لخيال الشاعر العربي المعاصر في علاقته بالليل وعوالمه المغلقة على مشاعر سرية أو مفضوحة. فهذا هو الشاعر الضليل يُحيِّرنا باختراع الليل من موج البحر الذي يرخي سدوله على البصر والبصيرة كما تُسدل أستار الخيام على النُّوم في ليل البادية:

وليل كموج البحر أرخى سدولهُ

عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي

(...)

ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي

بصُبْحٍ وما الإصْباحَ منك بأمثَلِ

فيا لكَ من ليلْ كأنَّ نجومهُ

بكل مغار الفتل شدت بيذبل

وما زال الليل يهبُّ من البحر منذ ذاك العهد وينحسر تاركًا شظاياه في القلوب وحرائقه المندلعة في غابات الأفكار.