دعنا نبدأ من «نهاية الصحراء».. هي رواية أصوات، فهناك شرطي، ومحاميتان، وصاحب محل لتأجير شرائط الفيديو، وصاحب فندق كان أحد مقاومي الاستعمار ذات يوم، وموظف استعلامات بالفندق، وراقصة، ومغنية... لماذا؟

- أردت في «نهاية الصحراء» استعادة تقليد ثقافي عريق، عرفته المنطقة المغاربية، أقصد منه: «مسرح الحلقة». يقوم على فكرة «الراوي»، الذي يلتفّ حوله النّاس، فيقصّ عليهم قصصًا وعجائب. في وقت لاحق تطوّر هذا المسرح الشّعبي، بدل راوٍ وحيد صار يضم رواة، مع مرافقين لهم في العزف، يتّفقون في سرد الحكاية ذاتها، وفق هندسة دائريّة، بينما النّاس من حولهم يستمعون إليهم ويعلّقون ويناقشون.

كان أحد الأشكال التعبيرية الأكثر ديمقراطية بحكم أنّه يتيح للمتلقي الحق في التّدخل، كما أن مسرح الحلقة هو مشترك بين المجتمعات المغاربية كلّها. وددت استعادة هذا التّقليد القديم، من منظور حديث، في كتابة روائيّة.

مع بدايات استعمار الجزائر (1830)، مُنع مسرح الحلقة، بحجة أنّه يحرض على المقاومة، ثم عاد إلى الظهور عقب الاستقلال، اليوم يكاد يختفي ولن نجد له أثرًا سوى في مناطق جنوبية نائية. في «نهاية الصحراء»، هناك الراوي الأساسي (شخصيّة إبراهيم درّاس) ومن حوله رواة يشاركونه المهمّة عينها. كلّ واحد من الشّخصيات يسرد الحكاية من منظوره. موضوع مشترك ورواة متعدّدون (خمس شخصيات أساسية في المجمل). كما يحقّ للقارئ تقبّل رواية من يشاء من الشخصيات أو معارضة الآخر. هكذا يصير القارئ شريكا في هذه العملية.

بحكم أن الرواية تدور وقائعها في ثمانينيات القرن الماضي، فمن المنطقي أن نلتمس تشابهًا في الأصوات، فقد كانت حقبة خرج فيها النّاس من رحم واحدة، رضعوا حليبًا واحدًا. كان النّاس أشبه بأغصان شجرة عتيقة. في النظام الاشتراكي -كما كان عليه الحال آنذاك- مارست السّلطة دور الوصي على العقول، وكلّ اختلاف في الرأي أو تعارض مع النّهج العام يصير أمرًا غير محمود. في رأيي، لا يحقّ لنا محاكمة تلك الحقبة بأثر رجعي، لأنّها كانت حقبة المنع بامتياز، وقد حاولت تلبّس الشّخصيات فيما فرض عليها -كرهًا- من تقبّل للواقع كما كان من دون اعتراض.

استطعت أن توجد تقاطعات قوية للغاية بين جميع الشخصيات، إما بصلة القرابة، أو العمل، أو من خلال مخفر الشرطة، أو الفندق، أو حتى من خلال دكان تأجير الأفلام مما جعل العالم أشبه بقرية يعرف الجميع فيها بعضهم.. ألم تقلق من أن يكون الربط الزائد بين الشخصيات ضد المنطق والواقع؟- كما ورد في الرواية، فالوقائع تدور في مدينة صغيرة من جنوب الجزائر. تاريخيًا، مدن الجنوب، أو ما يُسمى «الجزائر العميقة» تشكّلت من منظور عشائري. جراء تجمّع عشيرة بعينها. فمن المنطقي أن تربط بين أفرادها علاقات قرابة ويعرفون بعضهم بعضًا. بعض مدن الجنوب لا اسم لها، بل تُنسب إلى العشيرة التي تقطنها، لذلك نجد الكثير من التّسميات، على غرار: مدينة بني كذا.. أو مدينة أولاد كذا. الهجرات إلى الجنوب حكمتها ظروف بيئية. أمّا فكرة المدينة الكبيرة أو الكوزموبوليتية، فيمكن أن نعثر عليها في الشّمال (على غرار قسنطينة، عنّابة، العاصمة، وهران، وغيرها)، بينما المدن الدّاخلية الصّغيرة فتحكمها تقاليد قبليّة. سنجد أن غالبية ساكنيها يتصلّون في شجرتهم العائلية بجد واحد. كما إنّ الزّيجات تكون في الغالب ضمن العائلات نفسها، بين أبناء العمومة. على أرض الواقع أيضًا، في مدن الجنوب الصّغيرة النّاس يعرفون بعضهم بعضًا. كما أنني حرصت على تقليل عدد الشّخصيات. طغى على هذه الرواية الحذف أكثر من الكتابة.

تنبني الرواية على مقتل المغنية الجميلة «زكية» ويصبح الجميع متهمًا في نظر القارئ حتى اللحظة الأخيرة وهو يلهث ليعرف حل اللغز، وقد تحدث الجميع عن تلك المغنية.. ألم تواتك رغبة في أن تطل زكية المغدور بها بنفسها في العمل؟

- فضّلت أن يظلّ حضورها على ألسنة الآخرين. لأن الفنّ بات غائبًا عن حياة الناس، حاضرًا فقط في ذاكرتهم. كما أسلفت أيضا، فالحذف بالنسبة لي أهم من الكتابة في حدّ ذاتها. ففي سنوات الثمانينيات، كانت الجزائر تعيش زمن الحزب الواحد، الرأي الواحد، الملبس الواحد، المأكل الواحد، لذلك فحين تتعدّد الآراء في موضوع واحد (موضوع مصرع المغنيّة) فهي تُعارض السّائد، تعدّد الأصوات كان خيارًا مضادًا لما عرفته الجزائر حينها، أصوات تتيح لنفسها حقًا غير مسموح به، تبدي رأيًا في زمن لم يكن فيه للآخرين الحقّ في إبداء رأيهم، بل كان عليهم تقبّل الرّأي الأقوى، الأعلى وكفى.

الزمن حاضر بقوة إما من خلال ذكر السنة بوضوح (تدور في الثمانينيات) أو من خلال ذكر أحدث عالمية، تتعلق بالساسة، كالسادات، أو مارجريت تاتشر، أو الرياضة كهدف ماردونا بيده في إنجلترا، أو الأحداث المتصاعدة داخل الجزائر.. هل كانت لديك رغبة في توثيق الحياة الاجتماعية والسياسية التي أسهمت في تشكيل وعي الأبطال؟ وهل كان لديك تخطيط منذ البداية بأن يكون السرد مكونًا من طبقات متداخلة؟

- طبعًا، حياة الفرد/ الشّخصية تحدّدها المعطيات الاجتماعية التي يعيش فيها. لا يمكن أن نبرر سلوكا شخصية في رواية من دون الإشارة إلى الظّروف المحيطة التي تحيا فيها. نشعر غالبًا بأن تاريخ الجزائر الحديث يتوقّف عند لحظة (حرب التّحرير)، ما بعدها لا نعرف عنه الشيء الكثير. الجزائر في مخيّلة المواطن العربي تدور إبان حرب التحرير أو سنوات الجمر في التّسعينيات، وماذا حصل بينهما؟ نادرًا ما نصادف موادَّ أو كتابات في تشريح الحالة الجزائرية في زمنها الاشتراكي.

بطبيعة الحال لم يكن العمل سهلًا، لا توجد مراجع ولا وثائق. كما أن الوصول إلى الأرشيف مسألة شاقّة في الجزائر. توجّب عليّ استجواب أشخاص، تجميع شهادات من فئات اجتماعية مختلفة، عن حقبة الثّمانينيات. وجدت نفسي أقوم بعمل تأريخي، قصد توفير المادة التي تحتاج إليها الرّواية. عملًا مضاعفًا.

صحيح أن «نهاية الصحراء» عمل تخييلي بالكامل، لكنه يتّكئ على واقع، على أحداث حقيقية. انطلق من حدث ملموس، متّفق عليه، وأتخيّل مسارات أخرى له، عكس ما هو موثّق في التّاريخ. أنطلق من الواقع صوب التّخييل. كلّ حقيقة هي مادّة للتّخييل. أتيح للشخصيات حرية في التصرف وفي ردود الفعل عكس ما يجب عليها كما هو مدوّن في أرشيف المؤرّخين. أحاول ترويض التّاريخ مثل لاعب سيرك يروض نمرًا.

في الحالة الجزائرية، وقصد الكتابة عن الحقب الفائتة، نضطر إلى جهد إضافي، في التحضير للعمل، وفي تقمّص الزّمن الذي نكتب عنه. بالتّالي فالتحضير المسبق يصير شغلًا ضروريًا قبل الشرّوع في الكتابة. وهذه واحدة من مشاق الكتابة عن الجزائر. لسنا نملك التّرف الذي يحوزه غيرنا. تاريخ الجزائر ما بين حرب التّحرير والعشرية السّوداء هو أرض بور، تلك الحقبة تحتاج إلى أعمال أخرى تسلّط الضّوء عليها، وليس مجرد رواية واحدة.

عكست أجواء الرواية العنف المجتمعي البالغ والنظرة الدينية الضيقة والتدخل في شؤون الآخرين (الجيران مثلًا) والنظرة المتدنية إلى المرأة خصوصًا المطلقة أو الأرملة، والاتهامات بالعمالة للاحتلال، فهل يفسر ذلك موجة الإرهاب التي اجتاحت الجزائر أو العشرية السوداء في التسعينيات؟

- نظريًا عشرية الثمانينيات هي الفترة التي سبقت عشرية التّسعينيات، أو العشرية السّوداء. إرهاصات تلك المرحلة الدّامية ظهرت في الثمانينيات. لكن الأسباب الأعمق تعود إلى السّتينيات، إلى ما بعد الاستقلال مباشرة، لذلك نلاحظ أن الرّواية في ذهاب وإياب بين بداية الاستقلال وصولًا إلى الثمانينيات، في سرد يحاول ملامسة ربع القرن الأول من الجزائر المستقلة.

عقب خروج الفرنسيين، دخل النّاس في حماسة هيستيرية، كان زمن الحلم، والحلم حقّ، ونسينا في خضم الفرح تسوية خلافات واضطرابات لم تفتأ أن تطوّرت مع الوقت. عشرية التسعينيات الدامية إنّما محصلة ربع قرن من إغماض الأعين عن التّطرّف وعن الاختلالات التي عرفتها الجزائر، وظلّت تكبر مثل كرة الثّلج.

«في هذه البلاد، الحوت يأكل الحوت، وقليل الجهد يموت».. هل تفسر هذه المقولة التي كان الأبطال يرفعون أصواتهم بها، طوال الوقت، مجمل الرؤية في الرواية وفي جزائر الثمانينيات؟

- هذا مثل شعبي شائع، ورد على لسان شخصية نورة، وللأسف لا يزال يحكم واقعنا اليوم. نلاحظ في الرّواية تلك التراتبية الاجتماعية بين الأفراد، التي يحددها المال أو المنصب الإداري أو القرب من السلطة.

«قليل الجهد يموت»، أي من لا سلطة لها ستدوسه الأقدام. العدالة الاجتماعية كانت غائبة، بما يتعارض مع شعارات الاشتراكية. كان النّاس يعيشون في عالمين موازيين، من جهة شعارات العدالة والمساواة الاشتراكيتين، ومن جهة أخرى فشلهم في تحقيقها على الواقع. كان النّاس يرفعون رايات منظري الاشتراكية، من دون أن يجدوا لها مقابلًا في حياتهم اليومية. هذه أحد أسباب الانزلاقات التي ستظهر نتائجها لاحقًا، ذلك الشّعور بالغبن والظّلم الذي عاشه الإنسان. ذلك ما يتجلّى في شخصية (إبراهيم درّاس) مثلًا، الشّخصية الوحيدة التي عكست صورة المثقّف في الرّواية، فيجد نفسه منبوذًا، يمارس مهنًا صغيرة كي لا يموت جوعًا.

حقبة الثّمانينيات هي أكثر حقبة شاعت فيها أمثال ومقولات تظهر الجانب المظلّم من الحياة الاجتماعية، مثل مقولة: «أعطيني شاطر والله لا قرا»، بمعنى: كن شاطرًا (في التّجارة) ولا تهتم بالدّراسة. الشّطارة أهمّ من العلم أو الثّقافة. أو مقولة: «اللي قرا، قرا بكري»، بمعنى: من يهتم بالتّعليم سيفوته القطار. في تلك الحقبة ظهرت ثقافة (تراباندو) كما ورد في الرّواية. تراباندو في العامية الجزائرية هي السّوق السّوداء، هكذا سيهجر الشّباب الدّراسة وينصرفون إلى البيع والشّراء، لا سيما السّلع المستوردة. كل سلعة تأتي من الخارج كانت شيئًا ثمينًا. لم يكن الناس يثقون في منتجات بلدهم ولا في مصانعه التي أغلقت واحدًا تلو الآخر. لا يزال ذلك المنطق سائدًا إلى اليوم. صار من المخجل أن يقول الشّخص عن نفسه مثقفًا في مجتمع لا يؤمن سوى بسلطة المال والكسب السّريع.

ما الرابط بين بطلة رواية الشيخ «ديانا» وبطلة روايتك «زكية»؟ وبين بطلها «أحمد بن حسن» وبطلك «بشير لبْطم»؟- عام 1919 صدرت «الشيخ» لإديث مود هول، وهي أول رواية استشراقية دارت وقائعها في الجزائر. للأسف هي رواية مجهولة عند القرّاء. على الرغم من أنّها كانت «بيست سيللر» منذ عامها الأوّل، وتحوّلت إلى واحد من أنجح أفلام هوليوود (بطولة رودولف فالنتينو). على غرار «نهاية الصحراء»، فقد حكت أيضًا صراعًا بين رجل وامرأة، بين الحبّ والكره، في مكان غير معلوم، لا نعرف سوى أنّه يقع في الصّحراء وشمال مدينة بسكرة (في إحداثيات المكان نفسه الذي تدور فيه وقائع نهاية الصحراء). إذن انطلقت أيضًا من محاكاة مكانية لرواية «الشيخ»، من رغبة في تفكيك المنظور الاستشراقي، الذي يخيّم على الثّقافة المحليّة.

في رواية إديث مود هول لا يظهر العربي سوى في صورتي قاطع طريق أو خادم. كذلك دأب بعض المستشرقين في تنميط صورة العربي. منذ روايتي «أربعون عامًا في انتظار إيزابيل» وأنا مشغول بمحاولة تخليص المخيّلة الجمعية، في الجزائر، من ترسبات الاستشراق. رغم أن «الشيخ» تحكي فترة بداية القرن العشرين، فإنها لا تشير قطعًا إلى الاستعمار، ولا تبحث في تأثيراته، بل تعتبره قدرًا محمودًا على شمال إفريقيا. كما أنّها لا تبحث في نفسيات العرب، بل تصوّرهم كمنهزمين وكفى. بالتّالي فإن رواية «نهاية الصحراء» تحاول أيضًا كسر تلك الصّورة المنفصلة عن الواقع التي أراد الأدب الاستشراقي أن يلصقها بالإنسان العربي.

فسرت سابقًا عدم تسمية المدينة التي تدور فيها الأحداث بأن المدن الجزائرية كانت متشابهة في ذلك التوقيت.. هل كذلك ترى أن تلك المدينة يمكنها التعبير عن مدن عربية عديدة واجهت المشكلات نفسها في الثمانينيات؟

- ربما بدرجات متفاوتة. في جزائر بداية الثمانينيات، لم يكن للفرد الحق في الاختلاف. كان النّاس صورًا مطابقة للأصل. نتقبّل الشّعارات والمقولات الكبرى، من دون مناقشة. مع منتصف الثّمانينيات بدأ التغيير تدريجيًا. لا سيما بعد تهاوي أسعار النفط وفرض التّقشف، لم تعد الدولة قادرة على تلبية حاجيات الناس، فلجأت إلى فتح السوق على المنافسة، وبدأت تظهر الفوارق الاجتماعية. التي لم تفتأ أن تعمّقت. بدءًا من ذلك الوقت صار المال هو السّلطة مع ما رافقه من دوس على الحقوق الفردية أو القوانين الاجتماعية. تعددت الطبقات الاجتماعية وبدأت الصّراعات فيما بينها. هنا لا يجب أن نحصر الصراعات الاجتماعية في بُعدها السلبي فقط، فالصّراعات الطبقية لها أهميتها على الفنّ والأدب. كلّ فنّ جديد أو أدب جديد هو نتاج صراعات طبقيّة.

لماذا استمر السرد إلى ما بعد كشف قاتل زكية؟

- لأنها رواية، وكل شخصية من الشّخصيات تحتاج أن تكتمل صورتها في ذهن القارئ. أما مصرع المغنية أو كشف القاتل فهو ليس سوى تفصيل ثانوي أو مجرد مدخل بغرض الوصول إلى تفاصيل أخرى أهم منه. مصرع المغنيّة إنّما هو مصرع الفنّ، مصرع الجمال. أول الضّحايا في الجزائر كان الفنّ. مطلع العشرية السوداء في التسعينيات أول شريحة كانت مستهدفة هم المثقّفون والفنّانون. الجزائر فقدت ما لا يقل عن مائة صحفي وكاتب في تلك الحقبة. بالتّالي ما وقع لزكية زغواني إنّما صورة مصغّرة عما وقع لعشرات الفنانين. بالتّالي لم يكن غرضي البحث عن جانٍ بعينه، لأننا في النّهاية ندرك أن من قتلها لم يكن شخصًا واحدًا، بل مجموعة أشخاص. أن مجتمعًا تحالف في كبت صوت الفنّ. لم يهمّني تبرئة طرف أو تجريم آخر، ولا لعب دور الضّحية أو الجلاّد، بالنّظر إلى أن الجميع يتحمّل جزءًا من مسؤولية قتل الفنّانة/الفنّ. فالخطّ الآخر الذي اشتغلت عليه في رواية «نهاية الصحراء» هو البحث عن نشأة الجناة من منظور التّحليل النفسي. البحث النفسي كان إحدى أولوياتي. نحن نشاهد الجاني الرئيسي منذ الصّفحات الأولى في الرّواية من دون أن نشك فيه، واستمر صوته في الحضور إلى ما بعد الكشف عنه في مسعى فهم نفسيات القتلة، قبل وأثناء وبعد فعلتهم، في مجتمع الجريمة واللا عقاب. الجاني لم يخش أن يكتشف أمره بقدر ما خشي أن يفقد أشياء صغيرة أخرى في حياته. استسهل القتل وصعب عليه أن يفقد مكاسب شخصية راكمها جراء أفعاله. هناك تشبيهات كثيرة بأبطال السينما في الثمانينيات.. هل هذا ما جعل ثمة مشهدية عالية، أقرب إلى كادرات سينمائية تغلب على الرواية؟

- من المفارقات، وعلى الرّغم ما ساد الجزائر من انفلات في الثّمانينيات، فقد كانت السّينما جدّ حاضرة في عقول النّاس. كنّا ننتج ما لا يقل عن عشرة أفلام كل عام. نستضيف مخرجين أجانب بقصد تصوير أفلامهم. كانت قاعات السّينما تعجّ بالمتفرّجين، أما اليوم فبالكاد نجد قاعة سينما واحدة خارج المدن الكبرى. أشهر برنامج تلفزيوني آنذاك كان برنامجًا سينمائيًا، يُبثّ كلّ خميس. كل إجازة أسبوع تجتمع العائلات في مشاهدة فيلم حديث. في المقاهي الشّباب يتحدّثون عن السّينما مثلما يتحدّثون عن كرة القدم اليوم.

جيل الثّمانينيات كان جيلًا سينمائيًا بامتياز، فبات من الضروري أن تحضر السّينما بين ثنايا الرواية. لكن ذلك الزّمن قد انقضى. اليوم نعجز عن إنتاج فيلم واحد في الجزائر. كيف وصلنا إلى هذا الانهيار؟ سنوات الثّمانينيات على الرّغم من صعوبتها كانت أيضًا زمنًا للحلم، حلم أفضى إلى كوابيس. ننتقل إليك.. ما الذي أضافته إليك دراستك للأدب الفرنسي؟ وٌكذلك إقامتك بين الجزائر وأوروبا؟

- ثقافيًا، تبدأ علاقتنا في الجزائر بالخارج من فرنسا. في المكتبات سنعثر على كتب فرنسية أكثر من تلك التي تصلنا من الجوار العربي، في الأكشاك المجلات والصحف الفرنسية أكثر من نظيرتها العربية. الفرنسية هي لغة شبه رسمية. حين نرى رئيس البلد يُخاطب الشّعب بلغة فرنسية، فماذا يعني ذلك؟ طبعًا هناك نقاشات وصراعات حول الهوية اللغوية في الجزائر، لكن الفرنسية واقع وهي حاضرة في الحياة اليومية. للمفارقة أنا درست اللسانيات، مع ذلك كنت دائمًا ميّالًا للأدب. إنّ أرشيف الجزائر -الذي نحتاج إليه باستمرار- في غالبه بالفرنسية، ذلك ناجم عن مخلّفات الاستعمار، ليس سهلًا على بلد عاش قرنا وثلاثين سنة تحت الاستعمار أن يتخلّص من لغة المُستعمر في بضع سنوات. لن أقول إن الفرنسية «غنيمة حرب»، على رأي كاتب ياسين، لكنها واقع ونحن مجبرون على التّعامل مع هذا الواقع. فيما يخصّ الشقّ الثّاني من السّؤال، برأيي أننا سنكتب عن الجزائر بشكل أفضل، كلّما نظرنا إليها من الخارج. كلّما سافرت فأنا أعود إلى الجزائر، لم يحصل أن ابتعدت عنها. أنا في ذهاب وإيّاب بين الدّاخل والخارج كلّ عام. أحمل الجزائر في تفاصيل حياتي اليومية، في المطبخ، الأكل، في الموسيقى التي أستمع إليها، في دردشاتي اليومية مع أصدقاء أو أناس لا أعرفهم، النّظر إلى الجزائر من الخارج يتيح لنا تعاملًا أكثر شفافية وحيادًا معها.

ما الذي أضافته إليك الصحافة كأديب؟ خاصة تغطية مناطق الصراع في إفريقيا وأوروبا الشرقية؟

- هناك من يعتقد أن الأدب الجزائري عرف قطائع، بينما أظنّ أنه نتاج تراكم. منذ جيل المؤسسين «محمّد ديب، كاتب ياسين، إلخ» سنجد أنّهم مارسوا الصّحافة كعمل يومي. وصلت إلى الصحافة قادمًا إليها من الأدب. لم أغادر منذ 16 سنة خانة الصحافة الثّقافية. كان بوسعي أن أكتفي -مثل زملاء لي- بالتّدريس في الجامعة، لكن هناك ظروفا حكمت بأن أشتغل في الصحافة، مع ما يفرضه هذا العمل من متاعب يومية. لكنني أحرص - قدر المستطاع - ألا يسرق الصحفي من وقت الكاتب. أن أوازن بينهما. في رأيي أن الكاتب مثل عدّاء ماراثون، يعرف متى يضاعف من سرعته في الرّكض ومتى يقلّلها، تمامًا مثل الكاتب الذي عليه أن يعرف كيف يتحكّم في وقته. مع العلم أن الصحفي هو من ينفق على الكاتب، في حياتي اليومية. الكاتب العربي لا دخل له ولا يمكنه أن يعيش من مجرد الكتابة، مما يضطر الجميع إلى العمل في تخصص آخر، ومن حسن حظي أن الصحافة لها تقاطعات مع الكتابة، تمدّ الكاتب بالمادّة الأولية، تتيح له الوصول إلى ما يبتغيه قبل الشروع في كل عمل جديد. تتيح له تواصلًا دائمًا مع المجتمع الذي يكتب عنه. الصحافة أيضًا ميدان تدريب على الأدب.

ما تأثير كتابتك بلغتين هما العربية والفرنسية عليك؟ هل الكتابة بلغتين تُوجد ازدواجية داخل الكاتب؟

- توسّع من أفق النّظر إلى الأشياء. بالنّسبة لي الفرنسية هي فقط لغة العمل اليومي، بينما الأدب فأنا أكتب حصرًا باللغة العربية. كما تعلم فإن الرّواية فن غربي، لا نزال مرتبطين بالغرب في هذا الباب، ونظرًا لتعثّر حركة التّرجمة العربية، فالفرنسية تتيح لي ما أعجز عن الوصول إليه في اللغات الأخرى. مثلًا غالبية ما قرأته من آداب اليابان أو كوريا أو أمريكا اللاتينية، أو البرتغال أو اسكندينافيا، قرأته بفضل ترجمات إلى الفرنسية، فبالعربية كثيرًا ما يتأخّر وصول الكتب من تلك اللغات. هذه الازدواجية اللغوية تسمح لي باطلاع أوسع عما يصدر في البقاع الأخرى.

لماذا تكتب؟ وما سؤالك الأساسي في الأدب؟

- لماذا أكتب؟ لا أملك إجابة عن هكذا سؤال. سؤال يبدأ ﺑ«لماذا» يفترض إجابة تبدأ ﺑ«لأن»، ربما لأنني أتّفق مع ما ذهب إليه مارسيل بروست، بأن الكتابة وقت مستقطّع من الحياة: «إما أن تحيا أو تكتب»، كما قال. هي أيضًا شكل من أشكال الحياة. أظنني أكتب كي أكتشف ما أجهله. صراحة لست أدري لماذا شرعت في الكتابة، منذ المراهقة، ربما لا يزال الوقت مبكرًا على ردّ دقيق على هكذا سؤال، لكن الشّيء الأكيد أن الكتابة ترتبط بالحبّ، الحبّ بمفهومه الأشمل، بالرغبة في المغامرة، بالاكتشاف، الكتابة تشبه السباحة في مياه عميقة.

ما جيلك عربيًا؟ وهل أنت مهتم بالتصنيف الجيلي؟

- مهنتي الأساسية، قبل الكتابة، هي القراءة. أحاول، قدر الإمكان، متابعة ما يصدر، والتوصّل إلى مطالعة الأعمال الجديدة. لكنني لا أدري فعلًا هل كلمة (جيل) يقصد منها فقط السنّ البيولوجية؟ من هم في الثّلاثينيات في مثل سنّي خرجوا، في الغالب، من تجارب حياتية صعبة، لا سيما في الجزائر، قضينا طفولتنا بين أصوات الرصاص وأخبار قطع الرّؤوس في العشرية السّوداء، لذلك تظهر عتمة ولا مبالاة في كتاباتهم. لست مهتمًّا بالتّصنيف في أي جيل، بحكم أننا نتوجّه إلى قراء من أعمار مختلفة، أظن أن التصنيفات النّقدية تغنينا عن التّصنيفات الاجتماعية.

متى بدأت الكتابة.. ومن شجعك على الاستمرار؟

- بدأت في سنّ المراهقة، في السابعة عشرة على ما أذكر. بطبيعة الحال لا يوجد من يشجعّك، فالإنسان النّاجح في نظر مجتمعنا هو من يكدّس مكاسب مادية، والكاتب في الغالب شخص مغلوب على أمره ماديًا. كانت مكابدة فردية ولا تزال. بل هناك من يردّ عليك بسخرية إن علم أنّك تكتب. يتوجّب الأمر سنوات، من الصّبر والعمل، قبل أن يعترف النّاس بصفتك. ما ملاحظاتك على الساحة العربية والثقافية خاصة مشاكل توزيع الكتاب ومتابعة النقاد لما يصدر؟

- أظنّها مشكلة عامّة، وذلك له عوامل شتى، بدءًا من تدني القدرة الشرائية، في السّنين الأخيرة، وصولًا إلى ضعف البيع أونلاين. في الجزائر مثلًا لا توجد تجارة إلكترونية، مما يضطر القرّاء انتظار وصول الكتب، التي قد تتأخر سنة أو أكثر بعد صدورها. مما يضطر أيضًا المكتبات إلى غلق أبوابها. بينما أردّ على سؤالك الآن، مكتبتان أغلقتا في الجزائر. لاحظنا ما جرى في فترة الحجر الصحي في عامي كورونا. تكدست الكتب في وقت كانت فيها القراءة النّشاط الأكثر حيوية، بسبب عدم قدرة النّاس على اقتناء الكتب بالدّفع الإلكتروني.

أخيرًا.. ما طموحك من الكتابة؟ - لا أطمح إلى شيء عدا الكتابة في حدّ ذاتها. الكتابة أدرينالين.

في روايته الجديدة «نهاية الصحراء» جريمة قتل عادية، قد تقع في أي مكان، لكن الروائي الجزائري سعيد خطيبي يحوّلها إلى مساحة للعب في الفن والكتابة، وكذلك يصطحبنا معه في رحلة مثيرة إلى الجزائر في الثمانينيات، إلى شوارع إحدى مدنها، نجتاز معه مبانيها ونعرف علاقاتها ونلمس أحلام الناس فيها، وصراعاتهم الظاهرة والمستترة، واختلاط السياسة بالدين بالعنف في نفوس الناس، الذين يبدون وكأنهم سئموا الحياة والساسة ومديري العمل، فقرروا إقامة قوانينهم الخاصة، التي لا يمكن أن يحكمها مخفر شرطة المدينة.

سعيد خطيبي هو أحد أبرز روائيي الجزائر، وصلت روايته السابقة «حطب سراييفو» إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية عام 2020، كما حصل كتابه «جنائن الشرق الملتهبة» على جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة، كما يعمل في الصحافة، ويهتم بتغطية أماكن النزاع سواء في إفريقيا أو شرق أوروبا.

في هذا الحوار يتحدث خطيبي عن روايته «نهاية الصحراء» وعن نظرته للأدب والثقافة في المجتمعات العربية.