يعيش العالم بين الفترة والأخرى من العقود في القرن الماضي، وهذا القرن، في هدوء نسبي، سرعان ما تتم استعادة مقولات الصراع والصدام بين الحضارات أو الهويات الفكرية أو الإيديولوجية ، خاصة عند التحولات والتقلبات السياسية والاقتصادية، وفكرة الصراع نجدها قضية فكرية لصيقة بالغرب ورؤيته السياسية للآخر المختلف عنه، وتلك مسألة تؤرق البشرية عندما تتحّول إلى حروب وتوترات كبيرة، تحدث في بعض مناطق العالم كونها تشعل الفتيل دون أن تعرف مصيره ومآلاته على البلدان الداخلة في هذه الحروب أو القريبة منه، وهي نتيجة من نتائج الصراع السياسي أو الإيديولوجي الذي حدث ويحدث دائمًا للأسباب التي أشرنا إليها، وقد بدأ الصراع بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، والتي انتهت بانتصار دول الحلفاء الذي ضم الولايات المتحدة والغرب الرأسمالي، مع دخول الاتحاد السوفييتي معهم بعد ذلك، وهزيمة دول المحور الذي ضم ألمانيا وإيطاليا واليابان وتركيا، لكن بعد هذه الحرب حصلت تحولات معاكسة، فألمانيا الغربية وإيطاليا وتركيا، أصبحوا جزءًا من الغرب الرأسمالي، الذي دخلوا ضده في الحرب العالمية الثانية، إما أرغموا على ذلك وإما أصبحوا ضمن الرؤية الغربية الرأسمالية وفي الحلف العسكري، والاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي أو الاشتراكي، الذي تحالف مع الغرب ضد النازي في الحرب الثانية، أصبح خصمًا وداخلًا في صراع مع الغرب الحليف آنذاك، وهذا يعني أن مرحلة جديدة من الصراع مع كتلة هذا النظام وأتباعه من المعسكر المناهض للغرب.. قضية للصراع الجديد بدأت في سباق التسلح، ثم الدخول في الحرب الباردة ، من خلال الحروب الصغيرة، أما لاختبار الأسلحة وقدرتها على المواجهة، أو استفادة شركاتهم بعد الحرب من التعمير وفرض النفوذ أو غيرها من المصالح.

بعد سقوط المعسكر المناوئ للغرب الليبرالي الرأسمالي «الاتحاد السوفييتي ومجموعة حلف وارسو »، لم تشعر الدوائر القريبة من مؤسسات صناعة القرار السياسي في الغرب، خاصة في الولايات المتحدة ، بأن العدو الأحمر للغرب قد سقط وتلاشى خطره، لذلك بدأ التفكير في أمر ما يحرك الصراع لكي لا ننام قريري الأعين دون طرح المخاطر وتحريك المصانع والآلة الإعلامية، لذلك لا بد من اختراع عدو مقابل للغرب، من هنا اهتدوا إلى أن الخطر الأحمر قد سقط وتراجع تأثيره السياسي والعسكري، ليتجه الغرب إلى ابتكار عدو آخر يتمثل في الإسلام، فأصدر البروفيسور الأمريكي صامويل هنتجنتون في أوائل التسعينيات كتابه الشهير(صدام الحضارات: وإعادة صنع النظام العالمي)، وهذا الكتاب المحّرض للصدام بين الحضارات، أو الثقافات، جاء وكأنه يخالف ما طرحه البروفيسور الياباني/ الأمريكي فرانسيس فوكوياما في أطروحته الشهيرة (نهاية التاريخ وخاتمة البشر)، والذي اعتبر أن التاريخ أغلق تماما، بسقوط المعسكر الشيوعي المتمثل بالاتحاد السوفييتي وحلف وارسو، وانتصار الرأسمالية /الديمقراطية الغربية ـ وهذه سيكون لها حديث آخرـ بعد تراجع فوكوياما، عن أطروحته التي تحولت إلى كتاب بهذا العنوان، لكن صامويل هنتجنتون، يعرف حق المعرفة أن العرب والمسلمين، ليسوا ندًا للغرب في قوته وإمكانياته الاقتصادية والإستراتيجية، لذلك أدخل ما سماه بالمخاطر المتوقعة على الغرب من التحالف الإسلامي/ الكونفوشيوسي المقبل وتهديده للمصالح الغربية وقيمها وسلطتها، وإن نهضة الصين الاقتصادية ستكون أكبر حدث مهدد للاستقرار بعد انتهاء الحرب الباردة .. لماذا؟

يقول هنتجنتون :«أظهر التاريخ أنه كلما تطورت الدول من الناحية الصناعية أصبحت أكثر قوة ونفوذًا وأحيانًا تصبح لهذه الدول أطماع توسعية وإمبريالية.. ويبدو من المحتمل «لي» أن ترغب الصين في تأكيد نفسها في هذا المجال فخلال ألفي عام ظلت الصين قوة مسيطرة في شرق آسيا، ولكن منذ عام 1850م تفوقت عليها اليابان ودول الغرب ، ومن الطبيعي أنهم يريدون استئناف ما يرونه مكانهم الطبيعي في العالم وأن الحضارات الكونفوشيوسية والإسلامية تتحدث عن الغرب بصفته الخصم الرئيسي لها». هذه الاستنتاجات تخالف الواقع عبر التاريخ، فلم تكن هناك علاقات تاريخية أو تحالفات سياسية أو إستراتيجية بين الحضارة الصينيةـ وهي الأقدم ـ والحضارة العربية الإسلامية، لذلك فإن هذه الآراء ليست صحيحة بمقاييس التجارب التاريخية، لكن الخبراء الإستراتيجيين يريدون أن يهّولوا من إمكانات الصراع من خلال التحالف الإسلامي/ الصيني، وكأنهما قوة كبيرة ضد الغرب وتدمير حضارته وشل حركته الخ: وهذه بلا شك مقصود به إنهاك القوى الأخرى وبخاصة العرب المسلمين، وإدخالهم في حروب صغيرة، وقد حصل هذا في العراق، ثم في أفغانستان، لأن النظرة التاريخية للمسلمين والحروب المتبادلة مع الغرب، لا تزال تفعل فعلها في أذهانهم في الغرب مع أن أمتنا تعاني من الضعف والتأخر والتخلف، إنما النظرة السائدة لديهم، أن الإسلام له رؤية متمايزة ، ولا يقبل الاندماج في الفكر الغربي.

وهذا هو سر عدم ارتياحهم وتوجسهم ، فلا يزال المخيال الغربي قائمًا على أن الإسلام يجب عدم الاستهانة به في تأثيره الفكري، ويتحدث العديد من المفكرين الغربيين منذ عدة عقود عن ظاهرة انتشار الإسلام في الغرب انتشارًا لافتًا وهذا ما يرونه يشكل خطرًا في غياب الاندماج ، وهذه الآراء تستهدف شيطنة الآخر المختلف، ولم يقل هذا هنتجنتون لوحده، بل حتى العديد من صناع القرار في البيت الأبيض، الذين يقدمون التقارير والأفكار، ويطرحون الكثير من الآراء في التخوف والتوجس من الإسلام ، ومن هؤلاء البروفيسور المعروف « برنارد لويس» والمعروف بعدائه للإسلام والمسلمين، وكتبه تنضح بذلك العداء المكشوف، يقول لويس في دراسته الشهيرة ـ البذرة الأولى في الكراهية والتعصب والداعية لصراع الحضارات (جذور الغضب الإسلامي)،:«هناك شيء ما في الثقافة الدينية الإسلامية ، وهذا الشيء ـ كما يقول لويس ـ خاصة في حالة الجَيَشان والتمزق حينما يثور الغضب ـ الوسيلة لخليط ممزوج من الكراهية والمقت الذي يدفع حتى الحكومات العريقة والمتحضرة ، وحتى المتحدثين باسم ذلك الدين العظيم ليناصروا أعمال الخطف والاغتيال ويحاولوا أن يجدوا في سيرة نبيّهم استحسانًا وسوابق لأعمال كهذه. إن غريزة الجماهير الفطرية في غزو المنابع الجوهرية لهذه التغييرات العنيفة والمفاجئة إلى الغرب، وفي عزو سبب تمزق حياتهم القديمة إلى الهيمنة الغربية والتأثير الغربي والمثال والقدرة الغربيين، هذه الغريزة ليست بالتأكيد أمرًا زائفًا».

وقد أكد على هذه النظرة في الغرب الأكاديمي والسياسي الفرنسي «روبير شارفان» عندما ناقش أطروحة البروفيسور هنتنغتون فقال: «إن رؤية صدام الحضارات تفترض حاجة بعض الدول إلى خلق عدو وهمي أو فعلي يكون بمثابة كبش فداء تتحدد مهمته في تبرير المتاعب الداخلية لتلك الدول والتمويه على تناقضاتها الفعلية، فقد أدت في هذا الإطار مقولات «التهديد السوفييتي» و«الحرب الباردة » و«إمبراطورية الشر» و«مواجهة الشيوعية» دورًا مهمًا في تبرير المتاعب الاقتصادية والاجتماعية التي تتخبط فيها الولايات المتحدة وأوروبا. لكن مع تفكك الاتحاد السوفييتي صار من اللازم البحث عن عدو خارجي آخر، وما لبث مرتزقة المجموعات الصناعية والمالية الغربية من أن عينوا هذا العدو: إنه الشرق عمومًا والإسلام على وجه الخصوص».. وهذه مسألة معروفة حتى للمحللين الغربيين، والآن ومع ظروف الحرب في أوكرانيا ، والتوتر مع الصين، بدأت الحديث عن الصراع المقبل، وهذه مؤشرات لإعادة مقولة التهديد على الغرب.. وللحديث بقية: