كلما هممت أن أكتب في موضوع فكري أو قضية ثقافية في هذه الزاوية، وجدت أن عُمان نفسها تلح عليّ من حين لآخر كموضوع أثير عندي، سبق أن ألح على ذكرياتي، فوصفته فيما كتبت في سيرتي الذاتية، وفيما نوهت إليه من قبل في مقالي المنشور من قبل في هذه الجريدة الغرَّاء بعنوان: «سمات الشخصية العُمانية». وأود في هذا المقال أن أضيف شيئًا إلى ما سبق أن قلته هنا وهناك، لا من خلال تأمل نظري خالص، وإنما من خلال هذا النوع من تأمل الذات لمعنى خبراتها وما يمكن أن يُستفاد منها.
لقد عرفت كثيرًا من أرض عمان وربوعها وبحورها منذ سنة 1990، عرفت صلالة بجبالها الخضراء التي تسكنها حيوانات وطيور نادرة، وتهطل عليها الأمطار في فصل الصيف، وعرفت رأس الجنز ورأس الحد، حيث تخرج السلاحف النادرة من البحر في أوقات معلومة من السنة لتضع بيوضها قرابة الفجر؛ ولهذا كنت أرى السياح الأجانب يأتون إلى هذه المنطقة البكر وينصبون خيامهم. وعرفت «دغمر» التي لا يمكن بلوغها إلا عبر مرتفعات جبلية شاهقة، لتجدها هادئة وادعة بين الجبل والبحر، والتي يحفل بحرها بوفرة هائلة من الأسماك، حتى أنني بصحبة أصدقائي العمانيين قد اصطدنا ذات يوم صيدًا وفيرًا من أسماك التونة ناء القارب بحملها، وهي خبرة في الصيد عرفتها أيضًا في أثناء رحلة بحرية «بجزر الديمانيات» القريبة من جزر السوادي بولاية بركاء. وعرفت منطقة «الجصَّة» الفريدة في طبيعتها التي طالما زرتها، وبت يومًا على شاطئها بصحبة بعض أصدقائي العمانيين. أذكر أنني في ذلك اليوم قد شاهدت على مقربة من الشاطئ الصخري ثعبانًا بحريًّا ضخمًا من نوع الموراي Moray Eel، وأذكر تلك الأسرة الأجنبية التي استمتعت بالاقتراب منه في بهجة عارمة. كما أنني عرفت أيضًا رأس مسندم التي لم أتوقف عن زياراتها حتى حينما رحلت فيما بعد بسنوات عديدة إلى جامعة الإمارات منذ سنة 2002 وحتى سنة 2006. كنت أنتهز أحيانًا إجازة نهاية الأسبوع لزيارة رأس مسندم التي يقع بحرها الخصيب أسفل جبالها الحادة الشاهقة التي يبلغ ارتفاع بعضها حوالي ثلاثة آلاف متر، حتى أن السحب تكاد تلامس الرؤوس. ويحفل بحرها بأنواع مخصوصة من الأسماك في مواسم معينة من السنة، كما أنه يمتد فيما بين سلاسل الجبال من خلال أخوار. وكل هذا يشكل مشاهدَ طبيعية فريدة لا مثيل لجمالها. لا أحكي هذا كله من أجل التسلية بحكايات قد تكون مشوقة، وإنما أقوله باعتباره خبرة حميمة ربما تؤهلني لقول أشياء أخرى أكثر أهمية من الناحية النظرية؛ لأن النظر إذا لم ينبع من خبرة عملية، فلا قيمة له.
ما أود قوله من وراء ذلك كله أن عُمان قد حظيت بطبيعة فريدة نادرة على المستويات كافة: ثروة بحرية وفيرة تحوي تنوعًا كبيرًا من الكائنات البحرية، وجبال تليدة تعد من أقدم التكوينات الأرضية، وفيض من الماء يأتي من السماء، فيكسو بعض هذه الجبال خضرة لينساب في أودية وأفلاج، ومحميات طبيعية تسكنها الحيوانات النادرة وتحط عليها الطيور المهاجرة. كما أن عُمان تحظى -في الوقت ذاته- بنهضة عمرانية هائلة منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وهي نهضة يواصلها السلطان هيثم بن طارق -أبقاه الله- ويبني عليها. ولهذا، فإن الزائر إلى عمان اليوم سوف يشاهد عمان أخرى غير التي كانت منذ ثلاثين سنة، سواء من حيث التخطيط البيئي الجيد للتجمعات العمرانية الجديدة، أو في مجال شبكة الطرق التي تمتد إلى مسافات شاسعة من شمالها إلى جنوبها. كما أنه سوف يشهد تطورًا مذهلًا في البنايات المشيدة وفقًا لأحدث أساليب العمران في عالمنا الراهن. ولكن ما يشغلني في هذا الصدد ليس أمر هذه البنايات الحديثة، وإنما البيئات الطبيعية الفريدة التي تمتاز بها عمان، وهي البيئات الواقعة بين الجبل والبحر، خاصةً في المناطق البكر. ذلك أن بناء البنايات والكتل الأسمنتية في مثل هذه المناطق يفقدها طابعها الجمالي، بل يهدد الحياة البحرية والبيئية فيها. أذكر أنني في آخر مرة زرت فيها رأس مسندم -منذ سنوات بعيدة- وأحزنني أن أرى مبنى من كتل أسمنتية يتم تشييده قي الحيز الضيق الواقع بين الجبل والبحر، وأتمنى ألا يتواصل إنشاء مثل هذه المباني التي تؤدي إلى طمس هوية المكان. فما يتم إنشاؤه ينبغي أن يكون متناغمًا مع طبيعة البحر والجبل، أعني أن يكون في شكل أكواخ مصنوعة من تربة المكان ومواده الطبيعية، أو من خيام يتم تزويدها بوسائل الراحة، وأن تبتعد المباني الأسمنتية عن حرم الشاطئ بمسافة كبيرة. وهذا أمر له صلة وثيقة بالجذب السياحي؛ فالسياحة صناعة، والسائح يأتي في المقام الأول من أجل الطبيعة البكر الفريدة، وليس من المعقول أن تجني دول من السياحة ثروات هائلة بينما هي لا تملك تلك المقومات الطبيعية الهائلة التي حبا الله بها بلدا مثل عُمان أو مصر، دع عنك الآثار البشرية التليدة. ولهذا، فإن الطبيعة في عُمان، بالإضافة إلى طيبة شعبها وأصالته، هو ما يؤهلها لأن تكون من أهم المقاصد السياحية في العالم.
د. سعيد توفيق - أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»
لقد عرفت كثيرًا من أرض عمان وربوعها وبحورها منذ سنة 1990، عرفت صلالة بجبالها الخضراء التي تسكنها حيوانات وطيور نادرة، وتهطل عليها الأمطار في فصل الصيف، وعرفت رأس الجنز ورأس الحد، حيث تخرج السلاحف النادرة من البحر في أوقات معلومة من السنة لتضع بيوضها قرابة الفجر؛ ولهذا كنت أرى السياح الأجانب يأتون إلى هذه المنطقة البكر وينصبون خيامهم. وعرفت «دغمر» التي لا يمكن بلوغها إلا عبر مرتفعات جبلية شاهقة، لتجدها هادئة وادعة بين الجبل والبحر، والتي يحفل بحرها بوفرة هائلة من الأسماك، حتى أنني بصحبة أصدقائي العمانيين قد اصطدنا ذات يوم صيدًا وفيرًا من أسماك التونة ناء القارب بحملها، وهي خبرة في الصيد عرفتها أيضًا في أثناء رحلة بحرية «بجزر الديمانيات» القريبة من جزر السوادي بولاية بركاء. وعرفت منطقة «الجصَّة» الفريدة في طبيعتها التي طالما زرتها، وبت يومًا على شاطئها بصحبة بعض أصدقائي العمانيين. أذكر أنني في ذلك اليوم قد شاهدت على مقربة من الشاطئ الصخري ثعبانًا بحريًّا ضخمًا من نوع الموراي Moray Eel، وأذكر تلك الأسرة الأجنبية التي استمتعت بالاقتراب منه في بهجة عارمة. كما أنني عرفت أيضًا رأس مسندم التي لم أتوقف عن زياراتها حتى حينما رحلت فيما بعد بسنوات عديدة إلى جامعة الإمارات منذ سنة 2002 وحتى سنة 2006. كنت أنتهز أحيانًا إجازة نهاية الأسبوع لزيارة رأس مسندم التي يقع بحرها الخصيب أسفل جبالها الحادة الشاهقة التي يبلغ ارتفاع بعضها حوالي ثلاثة آلاف متر، حتى أن السحب تكاد تلامس الرؤوس. ويحفل بحرها بأنواع مخصوصة من الأسماك في مواسم معينة من السنة، كما أنه يمتد فيما بين سلاسل الجبال من خلال أخوار. وكل هذا يشكل مشاهدَ طبيعية فريدة لا مثيل لجمالها. لا أحكي هذا كله من أجل التسلية بحكايات قد تكون مشوقة، وإنما أقوله باعتباره خبرة حميمة ربما تؤهلني لقول أشياء أخرى أكثر أهمية من الناحية النظرية؛ لأن النظر إذا لم ينبع من خبرة عملية، فلا قيمة له.
ما أود قوله من وراء ذلك كله أن عُمان قد حظيت بطبيعة فريدة نادرة على المستويات كافة: ثروة بحرية وفيرة تحوي تنوعًا كبيرًا من الكائنات البحرية، وجبال تليدة تعد من أقدم التكوينات الأرضية، وفيض من الماء يأتي من السماء، فيكسو بعض هذه الجبال خضرة لينساب في أودية وأفلاج، ومحميات طبيعية تسكنها الحيوانات النادرة وتحط عليها الطيور المهاجرة. كما أن عُمان تحظى -في الوقت ذاته- بنهضة عمرانية هائلة منذ عهد السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وهي نهضة يواصلها السلطان هيثم بن طارق -أبقاه الله- ويبني عليها. ولهذا، فإن الزائر إلى عمان اليوم سوف يشاهد عمان أخرى غير التي كانت منذ ثلاثين سنة، سواء من حيث التخطيط البيئي الجيد للتجمعات العمرانية الجديدة، أو في مجال شبكة الطرق التي تمتد إلى مسافات شاسعة من شمالها إلى جنوبها. كما أنه سوف يشهد تطورًا مذهلًا في البنايات المشيدة وفقًا لأحدث أساليب العمران في عالمنا الراهن. ولكن ما يشغلني في هذا الصدد ليس أمر هذه البنايات الحديثة، وإنما البيئات الطبيعية الفريدة التي تمتاز بها عمان، وهي البيئات الواقعة بين الجبل والبحر، خاصةً في المناطق البكر. ذلك أن بناء البنايات والكتل الأسمنتية في مثل هذه المناطق يفقدها طابعها الجمالي، بل يهدد الحياة البحرية والبيئية فيها. أذكر أنني في آخر مرة زرت فيها رأس مسندم -منذ سنوات بعيدة- وأحزنني أن أرى مبنى من كتل أسمنتية يتم تشييده قي الحيز الضيق الواقع بين الجبل والبحر، وأتمنى ألا يتواصل إنشاء مثل هذه المباني التي تؤدي إلى طمس هوية المكان. فما يتم إنشاؤه ينبغي أن يكون متناغمًا مع طبيعة البحر والجبل، أعني أن يكون في شكل أكواخ مصنوعة من تربة المكان ومواده الطبيعية، أو من خيام يتم تزويدها بوسائل الراحة، وأن تبتعد المباني الأسمنتية عن حرم الشاطئ بمسافة كبيرة. وهذا أمر له صلة وثيقة بالجذب السياحي؛ فالسياحة صناعة، والسائح يأتي في المقام الأول من أجل الطبيعة البكر الفريدة، وليس من المعقول أن تجني دول من السياحة ثروات هائلة بينما هي لا تملك تلك المقومات الطبيعية الهائلة التي حبا الله بها بلدا مثل عُمان أو مصر، دع عنك الآثار البشرية التليدة. ولهذا، فإن الطبيعة في عُمان، بالإضافة إلى طيبة شعبها وأصالته، هو ما يؤهلها لأن تكون من أهم المقاصد السياحية في العالم.
د. سعيد توفيق - أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»