قد يكون مفهوما أن يكتب النرويجي كارل أوفه كناوسغارد الجزء الأول من سداسية عمله الأشهر «كفاحي» عن موت أبيه، وعن علاقته المتأخرة به، في نوع من المراوحة بين الطفولة والصبا والشباب ثم ما يأتي بعد ذلك أيٌ كان اسمه. كان ذلك الجزء تحديدا غامرا ويسهل على كل قارئ قراءته، لكن بداية الجزء الثاني التي جاء في العربية في طبعة بجزءين ليست كذلك، فأنت مضطر لكي تكون شريكا في تربية كناوسغارد لابنته في أدق تفاصيل الحياة اليومية التافهة. ومع ذلك يبدو ذلك مفهوما أيضا، لكن الصدمة التي سببها لي الجزء الثالث من السداسية وهو آخر ما ترجم لكناوسغارد للعربية كانت عنيفة على أكثر من صعيد. إذ بدا لي ولوهلة أن ما يحدث حقا هو ما يحدث اليوم كان سخيفا أم لم يكن، لم يبد أن ثمة ما هو أكبر مما يحدث هذه اللحظة، ومن كل تلك المشاعر الطاغية، التي نربيها منذ طفولتنا المبكرة، لتكبر معنا وتصبح بدورها السياج الذي يحيط بنا أينما ذهبنا.

عنوان الكتاب الثالث: «جزيرة الصبا» وفي طبعته العربية تظهر صورة صبي صغير بعينين خضراوين تميلان للزرقة، يشبه كناوسغارد لكنني لستُ متأكدة من أنها صورة تخصه، ربما تم تعديلها بالبرامج الحديثة ذلك أنه يسرد طفولته في السبعينيات من القرن الماضي، ولا أظن أنه يمكن التقاط صورة كهذه في ذلك الزمن. يحكي كناوسغارد كل شيء عن طفولته، إنني لا أبالغ عندما أقول كل شيء، الذعر الذي تسبب به والده له، وعلاقته بأمه التي تبدو بعيدة، وأخوه الذي يكبره ببضع سنوات والفضاء العام في النرويج آنذاك. أبوه الذي ينتمي للطبقة المتوسطة ويعمل مدرسا للأدب في مدرسة ثانوية، تأتي لحظات مقبضة معه لا يعود فيها من الممكن أن أتنفس، دون أن يصدر عني نشيج حاد أثناء القراءة، لعلي أذكر موقفا منها، كانت جدة كارل أوفه قد جاءت لزيارتهم لمساعدة الأب على مهام المنزل بعد أن تركت الأم البيت لتواصل الدراسة في مدينة أخرى، أعطت الجدة لكارل أوفه تفاحة، ولم يكن مسموحا له أن يأكل أكثر من تفاحة في اليوم، لكنه نسي أمر التفاحة وظن لأن الأمر قادم من جدته فهو مختلف بلا شك، إلا أن الأب سأله قبل أن يخلد للنوم كم تفاحة أكلت اليوم؟ أجابه: واحدة، فسأله الأب هل أنت متأكد ألم تعطك جدتك تفاحة أخرى، حينها تذكر كارل أوفه أنه أكل تفاحتين بالفعل، فاعترف بذلك، تركه أبوه لينام، لكن في اليوم التالي وبعد أن أنهى تفاحته اليومية، أعطاه والده تفاحة أخرى، أكلها بكل سرور، ثم أخرج الثالثة فالرابعة والخامسة، وأجبر كارل أوفه على تناولها جميعا قائلاً له: هذا لأنك تحب التفاح! حتى بدأ يبكي غير قادر على مواصلة تناوله للتفاح، فقال له أبوه أتمنى أنك تعلمت درسا من هذا كله. كانت كراهية كارل أوفه لأبيه كراهية لا يمكن أن تكون لغير الأب. شيء خاص وملتبس ويصعب وصفه، يجعله طيلة الوقت ميالا لإرضاء أبيه، والتفكير في رأيه حول كل شيء، ملتبسا في بعض الأحيان عندما يشعر تجاه والده بمشاعر عذبة ورقيقة للغاية كتلك المرة عندما أدرك فيها كارل أوفه أن والده لا يعرف التزلج ولا استخدام ألواح التزلج لم يكن كارل أوفه قادرا على أن يمارس التزلج الذي يتقنه جدا أمام أبيه خشية أن يدرك أبوه أنه لا يتقن التزلج بدوره، كان متعاطفا بلا حد مع والده، الأمر الذي دفعه للسقوط تضامنا مع والده غير القادر على التزلج.

غريب كيف أنني لم أرغب في البحث عبر «جوجل» عن صورة والده، لكنني بحثت عن صورة أمه بالطبع، ومع نهاية الكتاب كنت مستعدة لإلقاء نظرة على صورة الوالد حتى صادفت مقالة مذهلة على الغارديان حول صعوبة كتابة كل هذا، خصوصا وأن كناوسغارد واجه مشاكل عائلية وصلت للقضاء بسبب إفشاء أسرار عائلته على مدى عقود. كان ذلك يؤرقني أيضا أثناء القراءة لا الطريقة التي كتب بها السداسية فحسب بل المدة الزمنية القصيرة التي سلم بها ستة أجزاء ضخمة للناشر. وكأن شيئا انفتح في ذهنه مثل شلال جارف، لم تفته نأمة واحدة ومع ذلك يسرع في الكتابة والتعبير.

عنوان تلك المقالة «كارل أوفه كناوسغارد: لقد تخليتُ عن روحي» لجون هينلي ومن النقاط المثيرة فيها أن كناوسغارد الذي بالكاد كان معروفا لدى النخبة في النرويج بصفته روائيا وكان قد ألف أعمالا أقرب للفنتازيا، عندما بلغ الأربعين من عمره، العمر نفسه الذي غادر فيه والده المنزل ليتغير من كونه أبا ومدرسا وسياسيا محليا إلى مطلق ومدمن كحول، هنا كانت نقطة التحول لكارل، سمح له ذلك على حد تعبيره بالكتابة عنه أخيرا كما لو أنهما متساويان أخيرا، حيث إنه في السابق كان تمثالا لا يمس بالنسبة له، وقرر أن يكتب عنه كما كان بالفعل، الحقيقة فقط، دون حنكة الصانع وحيلته وذكائه. وهكذا تدفقت الكتابة بلا حد وبعد بضعة أشهر فحسب كان لديه 1200 صفحة سلمها للمحرر الأدبي. وهذان كانا المجلدين الأول والثاني. حتى بدأت بوادر الفضيحة والصراعات تظهر على السطح. يكتب هينلي: «أجرى مراسلو التلفزيون والراديو والصحف مقابلات مع كل من ذكر في الكتب، وكل شخص يعرفه كارل أوفه منذ الطفولة المبكرة.. هل كان يجب أن يفعل ذلك؟» أصبح هذا سؤالًا ملحًا نوقش في محال السوبر ماركت، في المقاهي، عبر موائد العشاء العائلية. اضطرت الشركات النرويجية إلى إعلان «أيام خالية من Knausgaard».

مر بالمشاكل نفسها مع زوجته ويخشى أن يكرهه أبناؤه عندما يكبرون للأشياء التي كتبها عنهم أيضا، يقول كناوسغارد: عندما كنت أبلغ الأربعين من عمري. كان لدي زوجة جميلة، وثلاثة أطفال جميلين، أحببتهم جميعًا. لكنني لم أكن سعيدا حقا. إنها ليست بالضرورة لعنة الكاتب.. ربما تكون لعنة الكاتب أن يكون على وعي بهذا أن يسأل باستمرار: لم يحدث هذا، كل ما لدي، ليس كافيًا؟ هذا حقًا ما أبحث عنه، إجابة عن هذا السؤال. كنت في نيتي مع هذه الكتابة أن أكتب الأدب».

لطالما وصفتُ قراءة كارل أوفه كناوسغارد نوعًا من العلاج، تعريض الصدمات الماضية للكشف، ثم التعافي منها أو ربما إدراكها فحسب، إنه قادر على فعل ذلك بسهولة، أن يجعلك في مكانه. ناظرا لقصتك الشخصية من الزاوية القريبة نفسها، دافعا إياك إلى اليومي، بكل ضراوته ووحشته، بالإضافة لجماله النهائي الذي نعجز عن التعبير عنه، اللحظات الصغيرة الوامضة أحيانا وبدون سبب واضح، والتي تجعلنا ندرك سحر العالم، ربما هي ما قال عنه البير كامو في يومياته: الزهور التي تنبثق في وسط الغبار المتطاير. الحياة هذه الحياة تستحق العيش لتلك اللحظات الأثيرية الغامرة.