من العجب شعورُ أغلبِنا بالتعب واستنزاف الطاقة رغم قلة الإنتاجية ومحدودية العمل، تُرى هل يمكننا وضع أصابعنا على موضع استنزاف الطاقة وإحراق الجهد دون أي جدوى أو أثر يرى؟! ثمّ: هل لوسائل التواصل الاجتماعي دور في ذلك؟

إن أخطر المعارك هي تلك التي لا تُرى، تلك التي تكون صراعاتُها داخليةً واستنزافها عصبيّأ ذهنيّا لا يمكن قياسه، لكن أثره يبقى طويلا، أو فلنقل رماده حتى حين لا يبقى أثر.

ومع إدراك السياسيين لهذه الحروب الخفية وآثارها المدمرة والمعمرة أحيانا أولوا عناية كبيرة بالحروب النفسية وأدواتها وتقنياتها المختلفة، كما أولوا عناية كذلك بالتحصينات النفسية والفكرية وتأمين دفاعاتها بتعزيز الوعي وشحذ الطاقات. ومع هذا الإدراك وظفت مجالاتٌ عديدةٌ لخدمة حروب نفسية هنا أو لتعزيزات دفاعية وتحصينات فكرية هنا وهناك، فقد تصنع هذه الآليات ما لا تصنع الحروب الحقيقية من آثار معمّقة باقية بتكلفة أقل وجهد أوفر.

وإذ يأخذنا الحديث للحروب النفسية واستنزاف الطاقات لا ينبغي إغفال وسائل التواصل الاجتماعي في حروب اليوم المؤدلجة الموجهة منها، أو حتى المجّانية التي نهديها أعداءنا (إن وجدوا) دون جهد أو حتى طلب.

أكتب عن كل ذلك وأنا أتأمل جنايتنا على أنفسنا ونحن أسرى لهذه الأجهزة بين أيدينا، كما أكتب متابعة قدرة ونفوذ وسائل التواصل الاجتماعي ليس فقط في إشغالنا وتشتيت تركيزنا عن أولوياتنا القومية والوطنية وحتى الشخصية وحسب، بل في خلقها نماذج من مُلْهِيات شتّى على شكل شخصيّات أسمتها "مؤثرة" وفقا لعدد متابعهيا دون النظر لمادة هذا التأثير ومحتواه.

شخصيات نبتت كالفطر في انتشارها المفاجئ وحضورها المصنوع الإجباري، فلست بحاجة للبحث عنها إذ تأتيك سعيا في كل زاوية رقمية عبر إعلانات ودعايا مدفوعة أو غير مدفوعة، أو عبر نطاقك الجغرافي الذي تضمّن وجودها ضمن دائرتك البحثية في وسائل التواصل الاجتماعي.

شخصيات بعضُها فزّاعاتٌ صنعت للتنفير؛ ليس من غربان الحقل وطيور الظلام كما قد يُظَن، بل من قيم تعودناها وثوابت تعودتنا، وبعضها الآخر مهرجون ولاعبو سيرك دُفِع لبعضهم لتسويق الإلهاء وتخدير الجماهير، واكتفى بعضهم بتسويق ترّهاته مقابل الترويج لأي شيء وكل شيء سعيا للمادة بأسهل الطرق وأقل الجهد، حين صار التأثير يقاس بالكم عدديا لا بالمحتوى الفكري موضوعيا.

ولا يقف الأمر عند هذا الحد من تشتيت سمعي بصري إجباري تصنعه الإعلانات وفقا للارتباط الرقمي الممنهج، بل يتجاوزه إلى استغراق الأغلبية في المتابعة ثم المشاركة في كل زوبعة سطحية تثار في هذا الفضاء المفتوح، حتى وإن لم تَعْدُ كونها متعلقات شخصية (من ملبس ومأكل ومسكن) أو علاقات شخصية (من زواج وطلاق ومحبة وخصام) بل حتى مواقف شخصية من قبيل "قال فلان" و"شوهد فلان" و"زار فلان" و"ضحك فلان".

لم يكن هذا الأمر متقبلا حتى مع أكبر الشخصيات الاعتبارية في أي بلد، فما القيمة المضافة للمتلقي من مشاركة كل هذه المتعلقات الشخصية؟! وإنما يكون لها كل الأهمية إن كانت مشاركتها ذات أثرٍ اجتماعيا أو أخلاقيا أو إنسانيا عاما.

ومع تسطيح الواقع وتحويل مركز اهتمام العامة لليومي والاستهلاكي بعيدا عن التغيير الفكري والتنمية الذاتية والمجتمعية لم يعد مستغربا وقوع الجماهير تحت تأثير زوبعة رقمية ما بين مؤيد ومعارض، وبين محلل ومبرر، فلو أن كل هذه الجهود من تأييد أو معارضة، تحليل أو تبرير، إدانة أو دفاع ظهرت عن موقف يستحق كل ذلك الوقت وكل تلك الجهود فلا بأس، أما أن ننصرف عن كل ما يحدث حولنا لخوض غمار حرب رقمية وهمية لأمر لا ينبغي الوقوف عليه، فضلا عن منحه وقتا وجهدا ومساحات ذهنية عصبية كما قال المتنبي:

"وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها.. وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِم"

يضج العالم حولنا بالقضايا المصيرية، والتحديات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، بين قضية فلسطين وقضايا مجاعة الصومال، إلى قضايا أخرى محلية من بينها التوظيف مع زيادة المخرجات سنويا، خطط التعافي اقتصاديا، أو بدائل تنويع مصادر الدخل وطنيا أو فرديا، تثقيف الناس حول إمكانات الذكاء الصناعي ومجالات التحول الرقمي، وقضايا أخرى اجتماعية واقتصادية، ولعلّ تراكمها أو تعقيدها أسلم البعض للهرب إلى فضاءات أخرى تنفيسا وراحة، ولا بأس في ذلك حين لا تملك وسائل التغيير ، ولا بأس في اختيارك النأي بالنفس من تعقيد الواقع إلى فسحة الترفيه والهدوء، لكن لا ينبغي لوجهتك في النأي أن تكون سفاسف القول والعمل مع استنزافك ذهنيا وعصبيا فيما لا فائدة ترجى منه .

حَريٌّ بالمنأى أن يكون وجهةً ترضاها لعقلك، مساحاتٍ للتأمل، قراءةً أو تدبرا أو حتى ترحالا يرتاحُ به عقلك ويهدأ معه قلبك؛ أو هواياتٍ تجدُ عبرها ذاتَك المبدعة أو تكتشف خلالها قدراتٍ لم تتخيلها، فتملأ روحَك ما استطعت راحة وفكرا وعلما بعيدا عن مهاترات لا تليق بما كرّمك الله به من عقل وما أنت عليه من وعي ورويّة.

ومع انتهاء دور التمحيص الواعي تأتي أدوار النخبة التي لا ينبغي أن تختفي أو تُهمّش، وهي المعوّل عليها مؤشرا لوعي المجتمعات ومدنيتها في مشاركة أبنائها تنمويا، وإسهاِمهم في تَلّمُسِ تحدياتها اقتصاديا واجتماعيا، واقتراح حلولا ناجعة لمشكلاتها أيّا كانت، وإسهام فاعل في تغيير حاضرها لمستقبل يرضونه مجتمعا تكامليا مستوعبا مختلف متغيراته وتحولاته، راسخ الثوابت عميق الرؤى.