ليست الكمية الهائلة من الحكايات الفاتنة هي وحدها ما يُميّز رواية هدى حمد الجديدة "لا يُذكَرون في مجاز" الصادرة مؤخرًا عن دار "الآداب" اللبنانية، بل كونها حكايات عُمانية بامتياز، مستلّة من أفواه الجدات، ومن جبال عُمان وأفلاجها وسواقيها وحصونها، حكايات تتناسل من بعضها البعض، لكن يَنْظُمها في الوقت نفسه خيط رفيع تُمسك به الكاتبة باقتدار، ما إن تنتهي حكاية حتى نجد أنفسنا مشدودين للتي تليها، حتى لَكأننا أمام "ألف ليلة وليلة" عُمانية.
ولعلّه ليس اختزالًا للرواية وعوالمها إذا ما استدعينا في هذا السياق الوصف الذي جاء على لسان الروائي البريطاني غراهام سويفت للإنسان. يقول سويفت فيما نقله عنه الكاتب الأمريكي جوناثان غوتشيل في كتابه "الحيوان الحَكّاء: كيف تجعل منا الحكايات بشرا" (ترجمة بثينة الإبراهيم) إن" الإنسان حيوان حَكّاء، أينما ذهب لا يرغب في ترك يقظة حيوية، ولا فضاء فارغ، بل سلسلة علامات من الحكايات. وعليه أن يواصل ابتكارها. فما دامت هناك قصة تكون الأمور على ما يُرام. وحتى في لحظاته الأخيرة، يقال، في اللحظة الحاسمة من سقوط مميت، أو حين يكون المرء على وشك الغرق، يرى حكاية حياته تمر أمامه سريعًا".
إذن؛ فالحكاية هي البطل الأول لهذه الرواية التي تبرع فيها المؤلفة في توظيف تقنية القصة داخل القصة. في "مجاز"؛ المكان المتخيّل الذي لن يصعب على قارئ عُماني أن يَعُدَّه قريته، "لا شيء يسرّي عن الناس سوى حياكة القصص"، جدات يورثن حكاياتهن لحفيداتهن، وحفيدات يبحثن عن الخلاص في حكايات المنسيين، ونجوم تسرد قصصها للعاشقين، وعين ماء مُرّة تستدرج إليها الظامئين للحكايات قبل أن تلتهمهم، وسجناء لا يجدون طريقة لإبعاد "الهَمّ الجاثم فوق الروح" إلا بتبادل الحكايات، وذاهبون للغياب يشعرون بسعادة لمجرد تخيّلهم أنهم سيعودون ذات يوم على هيئة قصة تُروى للناس. بل إنه حتى الموت، نعم، حتى الموت، "صار له الآن فمٌ يروي حكاية"!.
لكن ما نوعية هذه الحكايات؟ وهل هي من بنات مخيلة هدى حمد؟ في الحقيقة هنا تكمن براعة الكاتبة، فقد استلت حكايات من تراثنا العُماني تكاد تكون شائعة. مَنْ منّا مثلًا لم يسمع في طفولته عن الكتاب السحري الذي لا ينبغي لأحد أن يقرأه وإلا أصابه مكروه، أو عن الساحر الذي يركب الضبعة بالمقلوب، ويدخل عالم السحر بالتضحية بأقرب الناس إليه، أو عن اليدين اللتين ما إن تمسّا جُرحًا حتى تشفياه، أو العينين اللتين تخترقان الحجب وتريان على مسيرة أيام. من منا لم يسمع عن كاشف الضر وجالب الخير الذي كان أجدادنا يلجؤون إليه بديلًا عن المستشفيات، أو ذلك الذي يستفتي النجوم قبل تسمية مولود أو الموافقة على زوج!. نقرأ كل هذه الحكايات ونحن نندهش من قدرة مخيلة هدى حمد على ردم ثقوبها، وجعل شخصياتها من لحم ودم، تمشي بيننا بما يشبه واقعيةً سحرية عُمانية، حكايات كانت ناقصة لكنّها تكملها بموهبة الخيال. نقرأها ونحن نردد مع المرأة العجوز: "هناك من يمكنه أن يروي الحَكايا كاملة دون نقصان، كما يُمكنه ذكر الأسماء المحرمة علينا". لا غرابة إذن أن تضع هدى تصديرًا تهكميًّا لـ"لا يُذكَرون في مجاز": "أي تشابه بين شخصيات الرواية وتلك التي قابلتك يومًا أو سمعتَ عنها، مقصودٌ تماما"!.
كان الجهل المتفشي في الناس قديمًا كافيًا لتصديق مثل هذه الحكايات الفنتازية، لكن المؤلفة تضيف سببا آخر على لسان بطل الرواية المدعو ألماس، ألا وهو الجوع؛ "جوع الناس علامة كافية لتغدو أية قصة مقنعة يا سيدي، مهما كانت مخترعة" (الرواية ص111). هذا ما يخص الجذر الواقعي لهذه الحكايات. أما ولع هدى حمد بسردها فيتبدى لنا منذ طفولتها. في شهادة قديمة لها بعنوان "أكاذيبي" عمرها أكثر من خمسة عشر عاما تسرد أنها عندما كانت تتمشى وهي طفلة في مزرعة جدها الكبيرة "كانت الساحرة ذات العباءة السوداء تخرج في هيئتها القبيحة" وتخبرها عن أسرار كثيرة لا يحتملها قلبها الصغير آنذاك. لم يكن أحد يصدق حكاياتها المختلقة، وكانوا يصفونها بـ"الأكاذيب"، إلا شخص واحد هو صديق والدها الذي نصحها: "أنتِ مشحونة بالحكايات الكثيرة، وبالثرثرة، ستظلّ الأكاذيب تلاحقك كاللعنة إلى أن تسقط منك على الورق". ومنذ تلك النصيحة أصدرت هدى حمد خمس روايات هي "الأشياء ليست في أماكنها"، و"التي تعدّ السلالم"، و"سندريلات مسقط"، و"أسامينا"، إضافة إلى هذه الرواية الجديدة، كما أصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي "نميمة مالحة" و"ليس بالضبط كما أريد"، و"الإشارة برتقالية الآن". والمبهج في الأمر، أن ظمأها للحكايات لم ينتهِ، بل إنه يشبه الشرب من ماء البحر، كلما شربتْ منه، كلما ازداد عطشها أكثر.
ولعلّه ليس اختزالًا للرواية وعوالمها إذا ما استدعينا في هذا السياق الوصف الذي جاء على لسان الروائي البريطاني غراهام سويفت للإنسان. يقول سويفت فيما نقله عنه الكاتب الأمريكي جوناثان غوتشيل في كتابه "الحيوان الحَكّاء: كيف تجعل منا الحكايات بشرا" (ترجمة بثينة الإبراهيم) إن" الإنسان حيوان حَكّاء، أينما ذهب لا يرغب في ترك يقظة حيوية، ولا فضاء فارغ، بل سلسلة علامات من الحكايات. وعليه أن يواصل ابتكارها. فما دامت هناك قصة تكون الأمور على ما يُرام. وحتى في لحظاته الأخيرة، يقال، في اللحظة الحاسمة من سقوط مميت، أو حين يكون المرء على وشك الغرق، يرى حكاية حياته تمر أمامه سريعًا".
إذن؛ فالحكاية هي البطل الأول لهذه الرواية التي تبرع فيها المؤلفة في توظيف تقنية القصة داخل القصة. في "مجاز"؛ المكان المتخيّل الذي لن يصعب على قارئ عُماني أن يَعُدَّه قريته، "لا شيء يسرّي عن الناس سوى حياكة القصص"، جدات يورثن حكاياتهن لحفيداتهن، وحفيدات يبحثن عن الخلاص في حكايات المنسيين، ونجوم تسرد قصصها للعاشقين، وعين ماء مُرّة تستدرج إليها الظامئين للحكايات قبل أن تلتهمهم، وسجناء لا يجدون طريقة لإبعاد "الهَمّ الجاثم فوق الروح" إلا بتبادل الحكايات، وذاهبون للغياب يشعرون بسعادة لمجرد تخيّلهم أنهم سيعودون ذات يوم على هيئة قصة تُروى للناس. بل إنه حتى الموت، نعم، حتى الموت، "صار له الآن فمٌ يروي حكاية"!.
لكن ما نوعية هذه الحكايات؟ وهل هي من بنات مخيلة هدى حمد؟ في الحقيقة هنا تكمن براعة الكاتبة، فقد استلت حكايات من تراثنا العُماني تكاد تكون شائعة. مَنْ منّا مثلًا لم يسمع في طفولته عن الكتاب السحري الذي لا ينبغي لأحد أن يقرأه وإلا أصابه مكروه، أو عن الساحر الذي يركب الضبعة بالمقلوب، ويدخل عالم السحر بالتضحية بأقرب الناس إليه، أو عن اليدين اللتين ما إن تمسّا جُرحًا حتى تشفياه، أو العينين اللتين تخترقان الحجب وتريان على مسيرة أيام. من منا لم يسمع عن كاشف الضر وجالب الخير الذي كان أجدادنا يلجؤون إليه بديلًا عن المستشفيات، أو ذلك الذي يستفتي النجوم قبل تسمية مولود أو الموافقة على زوج!. نقرأ كل هذه الحكايات ونحن نندهش من قدرة مخيلة هدى حمد على ردم ثقوبها، وجعل شخصياتها من لحم ودم، تمشي بيننا بما يشبه واقعيةً سحرية عُمانية، حكايات كانت ناقصة لكنّها تكملها بموهبة الخيال. نقرأها ونحن نردد مع المرأة العجوز: "هناك من يمكنه أن يروي الحَكايا كاملة دون نقصان، كما يُمكنه ذكر الأسماء المحرمة علينا". لا غرابة إذن أن تضع هدى تصديرًا تهكميًّا لـ"لا يُذكَرون في مجاز": "أي تشابه بين شخصيات الرواية وتلك التي قابلتك يومًا أو سمعتَ عنها، مقصودٌ تماما"!.
كان الجهل المتفشي في الناس قديمًا كافيًا لتصديق مثل هذه الحكايات الفنتازية، لكن المؤلفة تضيف سببا آخر على لسان بطل الرواية المدعو ألماس، ألا وهو الجوع؛ "جوع الناس علامة كافية لتغدو أية قصة مقنعة يا سيدي، مهما كانت مخترعة" (الرواية ص111). هذا ما يخص الجذر الواقعي لهذه الحكايات. أما ولع هدى حمد بسردها فيتبدى لنا منذ طفولتها. في شهادة قديمة لها بعنوان "أكاذيبي" عمرها أكثر من خمسة عشر عاما تسرد أنها عندما كانت تتمشى وهي طفلة في مزرعة جدها الكبيرة "كانت الساحرة ذات العباءة السوداء تخرج في هيئتها القبيحة" وتخبرها عن أسرار كثيرة لا يحتملها قلبها الصغير آنذاك. لم يكن أحد يصدق حكاياتها المختلقة، وكانوا يصفونها بـ"الأكاذيب"، إلا شخص واحد هو صديق والدها الذي نصحها: "أنتِ مشحونة بالحكايات الكثيرة، وبالثرثرة، ستظلّ الأكاذيب تلاحقك كاللعنة إلى أن تسقط منك على الورق". ومنذ تلك النصيحة أصدرت هدى حمد خمس روايات هي "الأشياء ليست في أماكنها"، و"التي تعدّ السلالم"، و"سندريلات مسقط"، و"أسامينا"، إضافة إلى هذه الرواية الجديدة، كما أصدرت ثلاث مجموعات قصصية هي "نميمة مالحة" و"ليس بالضبط كما أريد"، و"الإشارة برتقالية الآن". والمبهج في الأمر، أن ظمأها للحكايات لم ينتهِ، بل إنه يشبه الشرب من ماء البحر، كلما شربتْ منه، كلما ازداد عطشها أكثر.