**media[2079657]**

رواية "ربيع البربر" التي كتبها الروائي السويسري الشاب يوناس لوشر (مواليد 1976) تدور أحداثها في الصحراء التونسية، عن طريق رجل أعمال يروي لرفيقه - السارد الخفي - تفاصيل أكثر عن رحلة قام بها من أجل الاستثمار في الصحراء التونسية. رغم أننا نصطدم ببعض المبالغات التي تظهرها الرواية على مستوى الانفتاح المجتمعي المجاني، إلا أن الكاتب يغلف ذلك بذكاء سردي، ما يوحي لنا بأن رجل الأعمال السويسري ربما يكون يكذب في هذه الفقرة أو تلك ، أو أنه يتخيل - بسبب تقدمه في العمر- أحداثا بعيدة عن السياق الطبيعي، وبهذه الحيلة السردية، يخضع السارد معلوماته الحساسة للاحتمالات، فيبدو وكأنما يعفي نفسه من تأكيد حادثة دون أخرى، مثل المشهد الذي يعرض فيه تاجر تونسي عائلته على رجل الأعمال السويسري، الأمر الذي يذكرنا وبطريقة جديدة (جاءتنا ناعمة هذه المرة) بتلك الروايات التي تدخل في باب الاستشراق، أو المساق المابعد كولونيالي الذي نظر له (وفككه بجرأة علمية) الكاتب الأمريكي الفلسطيني إدوارد سعيد. عن تلك الأعمال الأدبية التي تنظر إلى الشرق بتعال وكأنه فقط مصدر الجهل والتخلف والمتع المجانية، ما يبرر للمستعمر أن يتدخل في إصلاحه، وهو ما اعتبره سعيد تمهيدا للتدخل العسكري اللاحق الذي حدث في بدايات القرن العشرين. رصدها إدوارد سعيد في كتابيه الأكثر أهمية "الاستشراق" و "الثقافة والإمبريالية". حيث يمكن اعتبار ما أحدثه كتاب "الاستشراق" من ضجة عالمية بمثابة محرك ومحول لمسار كبير في الرواية في مختلف البلدان التي تأثرت بالاستعمار، حيث إن سعيد نفسه لم يكن يتوقع أن يحدث كل ذلك الاهتمام والردود بسبب كتابه، بل إنه في إحدى حواراته تمنى لو لم يكتب هذا الكتاب، الذي أثار وما زال يثير ضجة كبيرة حتى يوم الناس هذا، بل أصبح له تلامذته في كل أنحاء العالم، فلا توجد الآن أي جامعة لا تدرس كتب إدوارد سعيد، أو تستحضرها ضمن نسق الدراسات الثقافية، بل إن دارسي الاستشراق وصلوا حتى إلى الجامعات الآسيوية في الهند وباكستان وغيرها ، كما برزت انطلاقا من كتب سعيد أسماء فكرية صارت عالمية، كما هو الحال مع الباحثة البنجلاديشية جياتري سبيفاك والهندي هومي بابا والباكستاني إقبال أحمد، وغيرهم، إلى جانب أن مسار ما بعد الكولونيالية – في جانبه التأثري الإبداعي- غزا جائزة نوبل أكثر من مرة، كما هو الحال أخيرا مع البريطاني من أصل زنجباري عبدالرزاق قرنه الذي فاز بجائزة نوبل العام الماضي 2021، حيث تصب رواياته في مسار نقد ما بعد الاستعمار. ونقد ما بعد الاستعمار هو مسار فكري عريض نظر له إدوارد سعيد ووضع له أهم أركانه، وهو مسار ينطلق من فكرة قراءة الاستعمار الغربي للشرق. حتى إنه بسبب هذا الكتاب ، وانطلاقا من نظرته الاستشراقية وما يمكن أن يسمها من تعال، يمكن أن تجد بعض المستشرقين يتهربون من هذه التسمية، كما هو الحال مع المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك ( أول من نقل معاني القرآن الكريم إلى الفرنسية)، الذي بعد أن ألف سعيد كتابه الاستشراق، صار يفضل كلمة مستعرب على كلمة مستشرق، وذلك نظرا لما صارت تتضمنه – بعد كتاب إدوارد سعيد الاستشراق- كلمة مستشرق من تهمة استعلائية. وكان لكاتب هذه السطور فرصة للقاء جاك بيرك في محاضرة بالرباط في التسعينيات، وكيف كان يتحدث بعربية واضحة قوية، وكان يدافع عن العرب وحضارتهم. وكانت القاعة غاصة عن آخرها وحتى الممرات والمداخل كانت مليئة بالواقفين. وقت قصير بعد تلك المحاضرة وصلنا خبر رحيل جاك بيرك عن الدنيا.

وبهذه الرواية "ربيع البربر" نرى أن سؤال الاستشراق ما زال يتجدد ولكن هذه المرة من قبل روائي شاب لم يزر تونس ولكنه كتب عنها معتمدا على قراءاته وما تجود به نوافذ مخيلته. الرواية صدرت عن " العربي " للنشر و التوزيع، وترجمها إلى العربية د. علا عادل، وقد َصدر الغلاف بعبارة استلها من تضاعيف الرواية وهي " يتحول الإنسان إلى حيوان عندما يتعلق الأمر بمدخراته" . وهي رواية بطلها الرئيسي برايزينج الوريث للمصانع السويسرية التي تحمل اسم عائلته بريكسينج. وتدور أحداثها أثناء رحلة عمل وتلبية لدعوة بقضاء أسبوع في صحبة رجل أعمال تونسي وهو " سليم مردوخ" وابنته " سعيدة" التي تدير منتجعا سياحيا ترتاده الطبقة المترفة من السياح الأجانب ، ويقع في واحة " تشوب" إحدى واحات الجنوب في تونس بمنطقة البربر. تقترب الرواية من أجواء وتصورات ما يدور في أخيلة المستشرقين الأوروبيين ومفاهيمهم عن الشرق عامة والمنطقة العربية بصورة خاصة. يقول كاتب الرواية معربا عن سعادته بأن تصدر روايته باللغة العربية: " أنا في غاية السعادة لأن يصدر هذا الكتاب باللغة العربية الآن، لاسيما وإن جزءا كبيرا منه تدور أحداثه في دولة عربية، تونس، ولطالما كنت أهتم بأن أعرف كيف يطالع القراء من بلاد أخرى ومن دوائر ثقافية ما أكتب. ما الذي يعجبهم فيه وما لا يعجبهم. ما الجوانب التي يعتبرونها مهمة ومألوفة، وما الذي يبدو غريبا بالنسبة لهم، وما السياقات التي يضعونها بينه وحياتهم الخاصة. إلا أن ما يهمني على وجه الخصوص هو كيفية استقبال القراء العرب لهذا الكتاب" .

في إحدى صفحات الرواية الشيقة، يفاجأ بطل الرواية في الطريق بقافلة من الجمال لأحد البدو الذي يترزق من جماله عن طريق عمل رحلات للسياح الأجانب، يتفاجأ السويسري أن هذه الجمال قد صدمتها حافلة سياح في الطريق وقتلتها جميعا، وكان صاحبها البدوي يتألم وهو يبكي في الشارع، لقد ماتت جماله وسيصير الآن عاطلا عن العمل، بل فوق ذلك خاسرا ما يعادل خمسة عشر ألف فرنك سويسري، يتساءل بطل الرواية – التاجر السويسري- ولكن هذا المبلغ بالنسبة إلي بسيط جدا، بل إن مشروعا صغيرا من مشاريعي يدخل لي يوميا مثل هذا المبلغ الذي يشكل فرقا كبيرا لهذا الإنسان المسكين. " خمسة عشر ألف فرنك، هذا هو المبلغ الذي أجنيه من الشركة يوميا. فقط حصتي من الشركة، دون احتساب راتبي عن منصبي كرئيس مجلس إدارة، ودون احتساب حصصي الأخرى وعقاراتي وكل ما من شأنه أن يدر علي الأموال" -الرواية ص 43-

يتساءل: ما الذي يمنعني من أن أتبرع له بهذا المبلغ وأنقذ حياته؟ ولكنه ما يلبث وأن يطرد الفكرة من رأسه.