عقود الأزمنة مقياس دقيق لحقيقة المسيرة البشرية طوال سنوات العمر، قصر هذا العمر أو طال، ولأهميتها؛ لا يمكن تسجيل الأحداث والمواقف بدون تضمينها في النص كخاتمة

تؤرخ حركة الأزمان الممتدة بين نقطتي الليل والنهار، أو المشرق والمغرب، مواقف الإنسان تجاه الزمن، ومدى قدرته على أن يوظف الزمن لمشروعه الحضاري الكبير، من خلال هذا الاشتغال الإنساني السخي، وهو ما يكون محصلته الحضارة التي تؤرخ هذا الكم الهائل من الإنجاز البشري في شتى مجالات الحياة، وإذا قيست مجمل التفاعلات الإنسانية طوال العقود الزمنية الممتدة منذ بدء الخليقة، وإلى اللحظة الزمنية الحاضرة، فإن ذلك هو ما يمكن أن يكون شاهد عصر على هذا التراكم الزمني الممتد عبر هذه العقود الزمنية من التفاعل؛ سواء أكان هذا تفاعلا إيجابيا، أو تفاعلا سلبيا، فمن وظائف العقود الزمنية هو هذا الرصد الدقيق لمجمل تفاعلات البشر، وتأثير هذه التفاعلات على مسيرة الحياة، والبناء عليه بما يؤرخ للبشرية قدرتها على البناء والتطوير، فالشائع أن توثق الأحداث بالزمن؛ لا بالأمكنة، ولا بالشخوص، وإن تم تسجيلها كتأكيد للفترة الزمنية الحاضرة في زمن ما.

استطاعت عقود الأزمنة؛ عبر تاريخها الممتد؛ أن تتيح لهذا الإنسان لأن ينجز ما أنجزه، وأن يضع لنفسه موضع قدم في هذه الحياة، مستعينا بذلك بالجغرافيا التي بسط نفوذه عليها على امتداد الكرة الأرضية، وبالأدوات التي يخترعها، مستغلا هذه المساحة الزمنية الممتدة منذ ذلك العهد البعيد، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، حيث يلعب الزمن دورا محوريا في إعطاء الإنسان مساحة الاشتغال وفق ما يتوفر لديه من أدوات، ومن ممكنات ذاتية، ومن ظروف اجتماعية، واقتصادية مختلفة، وما يكتسبه من خبرات يسخرها في تفعيل عقود الأزمنة الحية، فحياة الأزمان، هي من حياة الإنسان، فالإنسان هو الفاعل الحقيقي في مساحات الزمن المتاحة، وإلا لما أتيح لنا أن نرى هذا الكم الهائل من الإنجاز لولا الهمة المتقدة لدى الإنسان في استغلال الزمن، والوصول بالارتقاء إلى هذا المستوى المميز من الوسائل والأدوات، والارتقاء بالفكر الذي استطاع وعبر تجربة الإنسان أن يصل اليوم إلى مراحل متقدمة من الإنجاز النوعي لمختلف شؤون الحياة.

تأتي عقود الأزمنة؛ على الرغم من تأثير وطأتها على النفس؛ لتصوب مساراتنا في هذه الحياة، فتوازيها مع خبرة الحياة اليومية التي نكتسبها من المواقف، والأحداث، جعل منها منهجا مهما للاستفادة، ومراجعة الكثير مما تم المرور عليه، سواء أكان هذا المرور حسنا، أو سيئا، وهذه المراجعة؛ يقينا؛ لن تأتي من فراغ، فلا بد أن يعاضدها عمل تم القيام به، وزمن مستقطع من أعمارنا وهو المتراكم يوما بيوم، ويمكن أن تأخذ مراحل العمر التي يمر بها كل منا؛ ومقارنة مجموعة الترقيات العمرية وتجربة الحياة في كل فترة زمنية، حيث نجد؛ ومن واقع التجربة؛ أننا نستثقل مجموعة الأوامر والنواهي التي يبديها كبار السن من آبائنا وأمهاتنا تجاه معظم السلوكيات التي نقوم بها في أعمارنا المبكرة، ونرى في ذلك احتمال ما لم يحتمل، وقد نتأفف، وقد نحزن، وقد نعبر بذلك عن سخطنا لهذا التدخل السافر من قبلهما، لأن معظم ما يلقى على مسامعنا لا نحتمله، ونراه يتصادم مع قناعاتنا ومواقفنا، ومكتسب الخبرة التي وصلنا إليها، وكأننا لا نساوي شيئا أمام تجربتهم العمرية في الحياة، ونظل كذلك حتى نكتسب كما نوعيا «محترما» من سنوات العمر وتجربة الحياة، ومع كل عقد زمني نكتسبه لأعمارنا، يبدأ بعض ما كنا نجهله يطفو على سطح هذه العلاقة بين الطرفين، حيث نبدأ لامتثال لما نسمعه، وما نتلقاه منهما، ومع تراكم العقود الزمنية (20 سنة؛ 30 سنة؛ 40 سنة؛ 50 سنة ...) عندها نقوم بالدور نفسه تجاه أبنائنا، وندرك حينها، أن مجموعة الأوامر والنواهي التي كان آباؤنا وأمهاتنا يسدونها لنا، هي الصواب، والطريق الصحيح نحو اجتياز كثير من المعوقات التي قد تصادفنا في حياتنا، وأن مجموعة التوجيهات والنصائح التي نسديها لأبنائنا وإخواننا الصغار هي الحقيقة التي لا يدركونها في أعمارهم الحالية؛ حتى يمروا بتجربة العقود الزمنية كذلك؛ وهكذا تتسلسل عقود الأزمنة لتصنع إنسانا؛ يجب أن يكون على قدر كبير من المسؤولية، ومن معرفة حقيقة نفسه، ومن معرفة أن الحياة أكبر من أمتعة زائلة، أو للمضات من السكر والعسل المؤقت، الذي نستعذب مذاقه في لحظة نشوة ما، وهذا لن يحصل إلا بعد تراكم كم معقول من عقود الأزمنة التي تمر سريعا؛ كالعادة؛ من حيث لا ندري؛ إلا عندما نبلغ من العمر عتيا، حيث نؤول إلى وهن وضعف، ويتكشف لنا الكثير من مما كنا نجهله في سنوات البدايات الأولى.

من الموثق أكثر وأصدق في شأن عقود الأزمنة التي يمر بها الإنسان هو ما جاء في قوله تعالى: (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة؛ يخلق ما يشاء، وهو العليم القدير) – الآية (54) من سورة الروم – فمرحلة الضعف الأولى تستهلك العقد الأول (السنوات العشر الأولى) وقد تحتاج جزءا من العقد الثاني إلى سن الـ (18 سنة) وهي مرحلة البلوغ، وسن التكليف، ثم تأتي مرحلة القوة التي تبدأ تقريبا من منتصف العقد الثالث الـ (25 سنة) وتستمر إلى العقد الرابع الـ (أربعين سنة) حيث الوصول إلى مرحلة التوازن النفسي، والعقلي ( ... وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا ۖ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا ۖ وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا ۚ حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي ۖ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) – الآية (15) من سورة الأحقاف -. وقد تزحف قليلا إلى العقد الخامس مرتهنا في ذلك على عدة عوامل نفسية ومادية، وفق البيئة التي يعيش فيها الإنسان، فقد تكون بيئة قاسية، فلا تترك له هذا الزحف الزمني السريع، وقد تكون بيئة خصبة من الناحيتين النفسية والمادية، حيث تعمر فيها الأرواح والأجساد على حد سواء، ثم تأتي المرحلة الأخيرة «الضعف» وهي المعمرة إلى أن يشاء الله، فقد تصل إلى القرن الأول الـ (100) سنة، وقد تطول أو تقصر وفق ما يقدره الله عز وجل من عمر لهذا الفرد أو ذاك، ومن يصل إلى العقد العاشر، قد يكسب رهان استحقاق البقاء إن عمّر هذا البقاء بالعمل الصالح والتوازن الواعي في مسيرة هذه العقود العشرة، وإما قد خسر هذا الرهان، والخسارة هنا كبيرة، وقاسية ومؤلمة، حيث أسقط الزمن من حساباته، فخسر الحياتين، والمحظوظ أكثر من يعي هذه الحقيقة؛ قبل فوات الأوان.

إذن؛ عقود الأزمنة هي واحدة من المناخات الإنسانية التي لا يمكن تجاوز حساباتها؛ سواء على المستوى الفردي أو المستوى الجماعي، حيث ينظر إليها على أنها المقياس الذي يمكن من خلالها معرفة مستويات التقدم، أو التأخر للأنشطة الإنسانية على وجه الخصوص، وللمكتسب الحضاري بوجه العام، فالعلاقة القائمة بين عقود الأزمنة، وجهد الإنسان علاقة وثيقة وتكاملية، بل هما ملتحمان التحاما قويا متوافقا، لا يمكن فصل أحدهما عن الآخر، فسقوط الزمن يماثله سقوط الإنسان، وسقوط الإنسان يماثله سقوط الزمن، وسقوط الزمن هنا معناه فشل الإنسان في الإنجاز، هذا الإنجاز على المستويين الفردي والجماعي، وأما سقوط الإنسان فهو نهايته من الحياة، حيث يخرج من الحياة خالي الوفاض، دون أن يكون له أي أثر، وهذه الصورة تكون عندما يكون الإنسان خارج سياق التاريخ؛ كما يقال؛ كحال المهمشين في الحياة، وهذه من الحالات النادرة؛ فالغالب أن أي إنسان، أو أي تجمع إنساني لا يمكن أن لا يترك أي أثر في حياته، أقلها على الإطلاق اسمه الذي يعرفه الناس به، فيقال فلان، وإن كتب قصته على هامش الحياة، فلا بد أن يكون له ذكر؛ ولو بعد حين.