في المدينة الأثرية (جرش) الواقعة شمال الأردن، تمشّينا في (شارع الأعمـدة) الذي يبلغ طوله حوالي 800م وتاهت خطانا نشوة، وهي تحثّ السير على الحجارة الصلدة للشارع الذي يعدّ من أقدم الشوارع في المنطقة، إذ يعود تاريخ إنشائه إلى عامي 39 و76م، وسوى أعمدة جرش، رأينا، نحن المشاركين في مهرجان جرش للثقافة والفنون ٢٠٢٢م، الكثير من المسارح التاريخية التي بناها الرومان، والمعابد، ويكفي أنّ أحد أقبية معبد آرتيمس، تحوّل إلى متحف هو (متحف آثار جرش) الذي أنشئ سنة 1928 الذي اُعتبر أقدم متحف في الأردن، وخلال سيرنا، حاولنا عدّ أعمدته التي تتجاوز الألف عمود، فلم ننجح، ليس بسبب كثرتها، بل لكونها مزيّنة بنقوش جذبت أبصارنا، تلك الأعمدة، والمعابد، والآثار القديمة، جعلت (جرش) ذات التاريخ العريق، الذي يعود إلى زمن حكم الإسكندر الأكبر في القرن الرابع قبل الميلاد، قبلة للسياح، وهذه المرّة لم نقم بزيارتها للسياحة فقط، بل للالتقاء بجمهور الشعر في مهرجانها الذي انطلقت فعالياته قبل حوالي أربعين سنة، وتوزّعت في مناطق عدّة من بينها الفحيص، ومأدبا، والمفرق، وإربد، والعاصمة عمّان، ومناطق أخرى، واشتملت على العديد من الفعاليات الفنية والحفلات الغنائية والمعارض، والجلسات القصصية، والنقدية، والندوات، في تظاهرة ثقافية انطلقت في ٢٦ يوليو واختتمت في ٦ أغسطس الجاري.

إنّ توزع أنشطة المهرجان على مناطق عدّة، جعل منه يتجاوز كونه مهرجان مدينة، إلى مهرجان دولة، يحتفي بإرثها الضارب في أعماق تاريخ المكان، فحين زرنا مدينة (مأدبا) تجوّلنا بين كنوزها الأثرية، وكان أول مكان نزوره فيها هو كنيسة الخريطة، المبنية على بقايا كنيسة بيزنطية شيّدت في منتصف القرن السادس الميلادي، ووقفنا منبهرين بالخريطة المرسومة بالفسيفساء التي تعد وثيقة نادرة في الجغرافيا، وفيها جرى تحديد مناطق مقدسة توزّعت بين الأردن، وفلسطين، ومصر، ولبنان، وكانت تلك الوقفة بداية لرحلة شملت جبل (نيبو) ذا المكانة التاريخية والروحية في الديانات السماوية، نظرنا إلى الأراضي الفلسطينية، التي تبدو مناطقها واضحة، حين تكون الأجواء صافية، كما أخبرنا الصديق الكاتب جلال برجس، وهو من سكّان مأدبا، وكنّا برفقته، وتأتي قدسيّة هذا الجبل من أنّ السرديّات الدينية تروي أنّ نبيّ الله موسى عليه السلام وقف على هذا الجبل مع قومه، وعندما توفّي دفن في هذا المكان، وفي قمة الجبل شاهدنا النصب التذكاري لعصا موسى، وهو نصب معدني جاء على شكل صليب ملتفة عليه حيّة، وهذا النصب للفنان الإيطالي جان باولو فانتوني، وكما تشير اللوحة التعريفية «يرمي إلى الحية البرونزية التي أمر الله النبي موسى بصنعها ووضعها على راية لحماية شعبه من الثعابين السامة التي أرسلها الله عليهم كعقاب لنكرانهم النعم التي أنعم عليهم بها وحسب الرواية فقد كان يكفي أن ينظروا إلى الحيّة البرونزية ليتمّ شفاؤهم».

وفي طريق عودتنا شاهدنا لافتة مكتوب عليها (متحف الحكاية)، وحين سألنا الكاتب جلال برجس عن محتوياته، قال: إنه يضمّ منحوتات تروي أحداثًا وردت في الكتب السماوية، إلى جانب بعض الأدوات والملابس والصور، والمشغولات التراثية التي كانت تستخدم قديما، وحين عدنا إلى (جرش) وأعمدتها وجدنا الشعر انضمّ إليها في مهرجان ضمّ الفنون جميعًا ليكون عمودا من أعمدتها الواقفة بثبات على مرور العصور.