اُنتقدتْ كتب "التنمية البشرية" أو "المساعدة الذاتية" كثيراً، حتى الدورات التدريبية التي تعتمد عليها، وربما يكون حضور هذا النوع من الكتابة منسجما مع ثقافة "تأمركت" خلال عقود من الزمن. أمام خطاب وحيد هو "الحلم الأمريكي" الذي يجعل من نوع محدد من الطموح مرام أمة بكاملها. لكن ترى ما الذي يحدث اليوم. خصوصاً وأن خطابات هذا النوع من الكتب، أصبحت مادة للسخرية والتندر خلال السنوات الماضية وبكثافة منقطعة النظير. بينما يتصاعد خطاب يمجد من الهشاشة، والتخلي والشفقة على الذات.

ببساطة استطاع هؤلاء أنفسهم الذين تبنوا هذا الخطاب لسنوات، من تغيير سرديتهم لتصبح أكثر ملاءمة مع متطلبات هذه المرحلة. اليوم أنت بحاجة لأن تقول عكس كل ما كنت تقوله في السابق، فستجد أحدهم يسخر من فكرة "حب الذات" وأخرى وهي سعودية مشهورة جداً في الآونة الأخيرة وتدخل الملايين عبر الخرافات التي تروج لها، وهي أن عليك عزيزي القارئ أن تتوقف عن المحاولة. إن أحداً ما كان عليه أن ينبهك في الوقت المناسب بأن حياتك تضيع في المحاولات، وبأن باباً مغلق هو ببساطة ليس مقدراً لك، ولا تمتلك "الطاقة الكافية" لفتحه.

هو الخطاب نفسه إذا مع تغيير طفيف يحمل ما يناقض الخطاب السابق، وهو عصري أكثر، مع ثقافة سائلة. يدعّي أنه أكثر تسامحا مع طبيعتنا، وأكثر قدرة على تفهم ضغوطات الحياة التي نواجهها بالفعل، وهذا الخطاب سيلقى بالتأكيد نجاحا ساحقا في مجتمعات مهزومة روحياً، وغير قادرة على فحص الأسباب الحقيقية التي تجعل من باب أي باب مغلقاً رغم كل المحالات لفتحه. مثل الأسباب السياسية التي تقف وراء الفقر والجوع والحروب أو حتى وراء الشعور بالهزيمة المعنوية داخل فضاءات عامة، تكرس نماذج من انعدام العدالة وتكافؤ الفرص وانعدام القوانين التي تحمي من عنف الأسرة وتعريف هذا العنف وغيرها من الظواهر التي يتم تجاهلها قصداً. فيصبح سبب غرقك عزيزي القارئ إما أنك لم تحاول بما يكفي حسب الخطاب القديم أو أنك تحاول في المكان الخطأ حسب الجديد.

الحلول دائما سهلة عندما يتعلق الأمر بك وحدك، لكن أحداً منهم لن يفكر في أن "كل شخصي سياسي" وأن ما تأكله على وجبة الغداء كل يوم يمكن ببساطة أن يتغير بقرار سياسي وحيد. إنها ثقافة على الرغم من رغبتها في تحريرك من الذنب إلا أنها تزيد من شعورك به. اذ دائما ما تتعلق المشكلة بك أنت، وحلها معك وحدك، بقرارك، بإرادتك، لا يهم إن كنت تقف عند الباب الصحيح، لكنك ببساطة تنتمي لطبقة اجتماعية مسحوقة، فلا يفتح لك الباب لذلك، غيّر الباب، غيره فوراً قبل أن تذهب طاقتك هباء. ما يثير اهتمامي بشكل خاص هو ملاحظتي لتبني المتخصصين الأكاديميين لهذا الخطاب، وأعد هذا نوعاً من التدليس والتلاعب خصوصاً وأنت متخصص في "علم النفس" الذي يعتمد على أدبيات أكثر تعقيداً من مجرد حسم الأمور بهذه الطريقة أو حتى الترويج لأي "حتمية" كانت، سواء بيولوجية أو "طاقوية". يتعامل المحترفون مع كل الأدوات التي يمنحها علم النفس بحذر شديد، وهم حساسون لكل كلمة سيكتبون عنها أو يتحدثون بها مع المجتمع، اذ أنهم وبعد سنين طويلة من البحث، يكتشفون كل يوم هشاشة أفكار كانوا قد آمنوا بها واعتمدوا عليها في تحليلاتهم وقراءتهم لما يواجهه الناس من اضطرابات. إنه ببساطة التواضع، والإيمان بأننا ما زلنا في بداية الطريق للكشف عن الكثير من العوائق التي تواجهنا كأفراد في هذا العالم.

بحسب ايريكا اكس ايسن فإن كتب التنمية الذاتية أمريكية الطابع، وأن أي حضور لها في أي ثقافة أخرى إنما تأتي محاطة بالحيوية الأمريكية، اذ أن هذه الكتب راجت في الصين مع تحول البلاد نحو سياسات اقتصادية ليبرالية. وتشير الكثير من الأدبيات لأمريكية إلى هذه الظاهرة، اذ أنها وحسب ما كتب ميكي ماكجي تجسد فكرة تكوين الذات من الفقر المدقع إلى الثراء التي كانت وما زالت تاريخياً في قلب الأساطير الأمريكية. وفي عام 2019 كانت إيرادات كتب التنمية الذاتية في أمريكا قد تجاوزت 11 مليار دولار.

فلنتأمل اقتباس ايسن هذا من كتاب رائج هنا بالمناسبة مثل كل مكان آخر وهو "العادات السبع للناس الأكثر فعالية" ستيفن كوفي وأنا هنا أترجم " إذا كنتٌ راغباً في تحسين وضعي، عليّ العمل على الشيء الوحيد الذي أستطيع التحكم فيه وهو نفسي" وكأن هذه النفس معطى مستقل عن كل ما هو آخر كما أشرت في بداية هذه المقالة. تقول ايسن إن هذا النوع من الخطابات أي الدعوة للتركيز على المساعدة الذاتية والتفكير الإيجابي والتغيير من الداخل، يخفف من السخط ويوجه القراء لا لتحليل العوامل الخارجية والسعي لمواجهة الظلم. قد يصبح الناس أكثر تأملاً وفي وضع من التفكير الذاتي المستغرق، لكنهم بالتأكيد لن يقبلوا على الإضراب أو تنظيم جهودهم لمواجهة المشكلة كما هي عليه في واقع الأمر. كما أن التركيز على المساعدة الذاتية والمكاسب الفردية يخلق عالما يقوم على المنافسة ونعيش فيه حالة من الانفصال المستمر عن الآخر، الذي ينبغي أن نتعاون معه، والذي لولا وجوده لما تمكنا من قراءة ما نحن عليه.