في مواجهة أزمات متنامية على مستوى كافة مجتمعات العالم يبرز نجم الابتكار الاجتماعي بوصفه محاولة لتسخير جهد – طاقة – إمكانات الابتكار في سبيل إيجاد حلول مجتمعية تنموية. فرضت الجائحة قيودًا مشهودة على الحراك العالمي لمواجهة الفقر فبحسب بيانات البنك الدولي انخفض متوسط دخل الـ 40% الأشد فقرًا في العالم بنسبة 6.7% عن ما قبل الجائحة، وهو ما رفع معدل الفقر العالمي من 7.8% إلى 9.1% قابلهُ زيادة في نسب الأفراد الذين يتوقع أن يمضوا يومًا كاملًا دون طعام وكلفة موازية على مستوى الفاقد في سنوات التعليم حيث تتوقع بيانات البنك الدولي حدوث خسائر إجمالية تتراوح بين 0.3 سنة و0.9 سنة من الدراسة.

كل هذا الآثار وسواها تتركز على الفئات الأكثر هشاشة والأسر الأشد فقرًا. وبحلول الاضطرابات السياسية في العالم وتعطل سلاسل الإمداد واقتراب الاقتصادات العالمية من مرحلة الركود ونمو شبح التضخم غير المنضبط تتفاقم التأثيرات المباشرة على هذه الفئات مما يولد ضرورة لتوجيه أشكال الابتكار المختلفة نحو مقاصد اجتماعية تستهدف في المقام الأساس إيجاد أنماط تكيفية / تنموية للفئات الواقعة تحت تأثير الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.

تعرف منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الابتكار الاجتماعي كونه "تصميم وتنفيذ الحلول الجديدة التي تنطوي على تغيير مفاهيمي أو عملية أو منتج أو تنظيم، وتهدف في النهاية إلى تحسين رفاهية ورفاهية الأفراد والمجتمعات". وتتقاطع مع فكرة الابتكار الاجتماعي مصطلحات عدة ومفاهيم تدور في رحاه؛ ومنها الاقتصاد الاجتماعي والنشاط التنموي لمؤسسات المجتمع المدني والمبادرات المجتمعية. غير أن الابتكار الاجتماعي يوجه في المقام الأول لإيجاد حلول غير معهودة (مبتكرة) ذات كلفة أقل ومستويات مخاطرة أدنى وأثر اجتماعي مباشر وأعمق للتحديات أو المشكلات الاجتماعية أو للاستثمار في الطاقة القصوى للمقومات الاجتماعية (المادية – المعنوية) أو في رأس المال الاجتماعي لخلق تنمية حقيقية ومستديمة. تشكل في مجملها صمام أمان للمجتمعات وتخفف العبء عن كاهل التنظيمات الرسمية وتدفع بدور القطاع العمومي نحو الاقتصار على رسم السياسات العامة وتسهيل البيئة الإجرائية. وتستثمر في كافة المقدرات المجتمعية بالشكل الذي يتجاوز الأطر التعارفية التقليدية إلى شكل أكثر تمحورًا حول قيمة (الابتكار المستدام). بحسب المنتدى الاقتصادي العالمي فإنه في أوروبا وحدها، تشير التقديرات إلى أن الاقتصاد الاجتماعي يضم 2.8 مليون كيان وهو مسؤول عن أكثر من 13.6 مليون وظيفة مدفوعة الأجر، وهو ما يمثل 9.9٪ من إجمالي العمالة في بعض البلدان.

تجمع الدراسات التي تناولت موضوع الابتكار الاجتماعي ومحدداته أن هناك عدة عوامل حاسمة تتحكم في مدى تأثير الابتكار الاجتماعي في سياق اجتماعي معين ومنها: "العلاقة بين التحصيل العلمي والرغبة في خدمة المجتمع، والمؤشرات المرتبطة بسهولة ممارسة الأعمال التجارية ومدى دعم البنى التشريعية والتنظيمية لممارسة الأعمال، والمنظومات القانونية والثقافية لدرء الفساد، وأنماط المخاطر الكلية، والأعراف الثقافية والاجتماعية". ويتحكم كل عامل من هذه العوامل في دورة الابتكار الاجتماعي من مدى القدرة على فهم الاحتياجات الاجتماعية الأساسية إلى فهم طبيعة المنتج أو الخدمة التي يحتاج المجتمع لتطويرها لسد ذلك الاحتياج أو مواجهة تلك المشكلة وصولًا إلى تطوير عناصر الابتكار في الخدمة أو المنتج وتأسيسها على عنصر الديمومة والقيمة المضافة إلى جانب القدرة على تطوير مؤشرات دقيقة لقياس التأثير وفاعليته يفرض الواقع الراهن في الحالة العُمانية – حسب تقديرنا – إيجاد سياسة وطنية لتعزيز الابتكار الاجتماعي والهدف منها تحديد الاحتياجات الاجتماعية الرئيسية التي يحتاج التعامل معها إلى تطوير مبادرات أو منتجات أو خدمات مبتكرة ليس بالضرورة أن تقدم بواسطة الدولة ولكن من خلال منظومة المجتمع المدني أو المبادرات المجتمعية المنظمة. ويتأتى دور الدولة هنا في احتضان منظومة الابتكار الاجتماعي تشريعيًا وإجرائيًا. أفرزت فترة الجائحة الكثير من المبادرات التعليمية والصحية المبتكرة والمطلوب اليوم هو توسيع نطاق مثل هذه المبادرات وإكسابها صفة الاستدامة وتنويع مجالاتها.

كما ويمكن التفكير في إنشاء مركز متخصص للابتكار الاجتماعي. فقدت بدت العديد من مراكز الابتكار الاجتماعي تنتشر عبر دول مختلفة، حيث بدأت من مراكز بحثية وتدريبية تابعة للجامعات وبعضها أصبح مستقلًا يقدم خدماته واستشاراته وبرامجه خارجها. فهناك مركز جامعة ستانفورد للابتكار الاجتماعي الذي يشتغل على مراكمة أبحاث حول الابتكار الاجتماعي وتقديم مقررات تدريسية في أسس الابتكار الاجتماعي عوضًا عن تقديم استشارات في هذا المجال. كما تقدم جامعة كامبرديج ماجستيرًا أكاديميًا في الابتكار الاجتماعي يتوجه – حسب الجامعة – إلى مصمم للممارسين من قطاع الأعمال والشركات والقطاعات العامة والاجتماعية الذين يرغبون في قيادة حلول مبتكرة للقضايا الاجتماعية الملحة. ويقدم مركز الابتكار الاجتماعي في جامعة كاليفورنيا مشروعات بحثية ترتكز على قيم المرونة والإدماج والاستدامة والإنصاف في التعامل مع المبادرات المقترحة وتوليد البيانات حول الاحتياجات والمشكلات الاجتماعية الملحة. واستحدثت جامعة الملك سعود ضمن مركز الابتكار الخاص بها وحدة تعنى بالابتكار الاجتماعي وهي تجربة جيدة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها. يمكن أن يكون المركز المقترح في المرحلة الأولى محتضنًا في إحدى المؤسسات الأكاديمية شريطة أن يطبق في أبحاثه واستشاراته المبادئ الرئيسة للابتكار الاجتماعي وأن يسهم في مراكمة أدب معرفي حول قضايا الابتكار الاجتماعي وأن يكون مرجعية وطنية للاستشارات والتدريب وبناء القدرات في هذا المجال.

غير أن السياسة التي ندعو إليها هنا قد تتوسع إلى أبعد من ذلك من خلال توجيه بعض المؤسسات وتأهيلها ودعمها لتكون قائمة في نموذج عملها على مبادئ الابتكار الاجتماعي وأن تتوجه لمعالجة قضايا ومشكلات اجتماعية قصوى. ونقترح أن تركز على تبيان الجوانب التالية:

- أهم القضايا المجتمعية التي يتوجب أن تتوجه إليها عمليات الابتكار الاجتماعي.

- الأطر الناظمة لعمل مؤسسات الابتكار الاجتماعي وعلاقتها بالمؤسسات العامة والخاصة.

- المبادئ الوطنية للابتكار الاجتماعي والمحددات التي ينطلق منها عمل المؤسسات ذات الصلة بموضوع الابتكار الاجتماعي.

- آلية بناء قدرات العاملين في مجال الابتكار الاجتماعي ومحددات المنتج/ الخدمة التي تخرج من مؤسسات الابتكار الاجتماعي.

- أطر بناء المعرفة وتوليدها والتثقيف العام حول الابتكار الاجتماعي وإدماجه في الثقافة العامة وفي النهج التعليمي والأكاديمي وفي ريادة الأعمال والأعمال التجارية باختلافها.