كشف الرئيس الروسي بوتين عن رؤيته للعالم لمرحلة ما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، وذلك قبل أن تنتهي هذه الحرب، وبعد مرور ستة أشهر، واللافت الآن، تزامن المسارين الروسيين: مسار استمرار الحرب، ومسار التسويق والتشكيل البنيوي للنظام العالمي الجديد الذي يريده بوتين أن يكون متعدد المراكز، وليس متعدد الأقطاب، وبدأ المشهد، وكأن الحرب الروسية على كييف ورؤية بوتين للنظام العالمي الجديد، قد تم التخطيط لهما فوق طاولة واحدة، وبقرار واحد، وما الحرب على كييف سوى أنها الوسيلة لتحقيق غاية بوتين في إحداث انقلاب دراماتيكي على النظام العالمي الحالي، وتدخل طهران في المعادلة المستقبلية لموسكو في تواقيت زمنية وسياسية لافتة، ومقلقة للخليج بنتائجها الراهنة، فكيف بالمستقبلية؟

بدأت لنا رؤية بوتين للنظام العالمي المتعدد المراكز، أنها نسخة مطورة للحقبة السوفييتية السابقة، البعض يصفها بأنها حلم يصعب تحقيقه، ومهما يكن، فلا ينبغي تجاهلها، فما قد يبدو حلما، قد يصبح حقيقة، في ظل حقيقة ثابتة الآن، وهي أن حقبة الهيمنة الغربية قد ولت، وبالتالي لا يمكن للفكر السياسي أن يستبعد أية احتمالات مهما بدأت طوباوية الآن، وعندما نتابع نتائج القمم الروسية الإيرانية التركية في طهران، خاصة على صعيد العلاقات الروسية الإيرانية، ستسقط مقولة المستحيلات في ظل أن كل القوى العالمية تدخل في طور التحول التاريخي.

سنتناول رؤية بوتين للعالم الجديد من منظور تطبيقاتها على المحيط الجيوستراتيجي ومن الزوايا التي تشغلني دائما، وهي الانعكاسات على مستقبل الديموغرافية الخليجية في ضوء تحولات دولها المالية والاقتصادية، حيث يقدم بوتين رؤيته "لنظام عالمي جديد متعدد المراكز، متناغم وأكثر إنصافا، وبتوجه اجتماعي وآمن" كبديل للنظام الحالي الذي يعتبره "عائقا لتطور الحضارة" وفي نظام بوتين يكون للأمم الحق في تنظيم ذواتها، وتحقيق أهدافها كما تشاء، والتلويح هنا بالبعد الاجتماعي، هو بمثابة الحنين للحقبة السوفييتية السابقة، وقد انكشف حنين الرئيس بوتين لهذا الحقبة - كما يقول أحد الكتاب - عندما أمر بعودة تماثيل ستالين في كل أنحاء روسيا، وذلك بعد استيلائه على شبه جزيرة القرم 2017. وقد تعزز ذلك بعيد الحرب الروسية الأوكرانية التي اندلعت في 24 فبراير الماضي، فكيف لا، وقد كان له مواقع عميقة وقيادية في جهاز الاستخبارات السوفييتية السابقة، وتوقيت كشف بوتين عن رؤيته يأتي بعد العودة الأمريكية للخليج، ويأتي كذلك في توقيت تشهد فيه دول الخليج العربية تحولات في فكرها الأيديولوجي الاقتصادي، وذلك عبر تغليب النيوليبرالية في إصلاحاتها الاقتصادية والمالية، وهذا بمثابة نقلة تاريخية في دور الدولة في الخليج غير محسوبة النتائج والمخاطر، خاصة إذا ما تقاطعت مع مرحلة العالم الجديد كما يريد له بوتين الذي نجح بأحداث اختراق جيوستراتيجي من الضفة الجنوبية للخليج العربي.

والنيوليبيرالية تطلق يد الشركات المحلية وعابرة الحدود، مقابل غل يد الدول، ولا تتدخل إلا لحماية الفئات الأكثر ضعفا، وبصورة ما يجعلها تتنفس الأوكسجين وهي في عنق الزجاجة، لذلك يسمونها – أي النيوليبيرالية – الوجه القبيح أو المتطرف لليبرالية، وهذا سيكون له تداعيات داخلية في دول المنظومة الخليجية في العالم الجديد، بصرف النظر عن طبيعة النظام العالمي لمرحلة ما بعد الحرب على كييف، ونجاح رؤية بوتين أم لا، وهي التي ينبغي أن تبني عليها دول الخليج العربي رؤيتها للعالم الجديد من الآن.

وسواء اعتبرنا زيارة بوتين لطهران، والقمم التاريخية الثلاث بين إيران وروسيا وتركيا في إيران، تدخل في إطار الترويج والتأسيس لمركز دولي إقليمي قوي، تقوده موسكو وبكين أم اعتبرناها في سياق التنافس الجيوستراتيجي العالمي، فإن اختراق بوتين للضفة الجنوبية للخليج العربي، يشكل أكثر قلقا لدول الخليج العربية من جهة، وواشنطن من جهة أخرى، وهذا الاختراق يضمن لموسكو وجودا مستداما على الضفة الجنوبية للخليج العربي، بمختلف الأشكال، بما فيها العسكرية، وذلك بتوقيع موسكو مع طهران على اتفاقية إحياء صناعة النفط الإيرانية بمبلغ 400 مليار دولار، والاتفاق على اعتماد الروبل الروسي والريال الإيراني، بديلا عن الدولار الأمريكي واليورو الأوربي، وستوقعان اتفاقية تعاون استراتيجية شاملة لمدة 20 أو 25 سنة.

وإذا ما زودت طهران موسكو بالمئات من الطائرات المسيرة في حربها على كييف، فإن اتفاقية التعاون الاستراتيجي الشاملة تكون قد نفذت قبل توقيعها رسميا أو برتوكوليا، ويكون الدفاع المشترك بينهما قد أصبح واقعا في مرحلة إرهاصات تشكيل النظام العالمي متعدد المراكز، واللافت هنا، دخول تركيا كطرف يربك الخطط الأمريكية في المنطقة، فقد مدد رئيسها أردوغان الذي شارك في قمم طهران، عقد شراء الغاز الإيراني لمدة 25 عاما إضافية، وقرر رفع التبادل التجاري مع طهران إلى 30 مليار دولار سنويا، أي أكثر من ثلاثة أضعاف مما هو عليه الآن.

فهل بذلك، تدخل أنقرة كطرف فعال في مبادرة الاستقطابات للنظام العالمي متعدد المراكز؟ فقمم طهران شهدت كذلك مواقف سياسية ينبغي التوقف عندها لاستجلاء الآفاق المستقبلية، فالرئيس الإيراني قد ربط أمن بلاده بأمن أنقرة، وهذه الأخيرة بأمن دمشق، وهذه الثلاثية الأمنية التلازمية، تطرح التساؤل التالي: ماذا جرى في مؤتمر أستانة بشأن سوريا ؟ فقد عقد هذا المؤتمر أثناء زيارة بوتين لطهران، ومع عقد اجتماع مجلس التعاون بين أنقرة وطهران في نسخته السابعة على مستوى رفيع، وبالتالي، لا يمكن فصلها عن التفاهمات المستقبلية بين الدول الثلاث عامة، وبين ما يفكر فيه بوتين عالميا خاصة.

وتلكم السياقات هي التي تدفع ببوتين إلى إيفاد وزير خارجيته لافروف إلى القيام بجولة إفريقية تشمل أربع دول من بينها مصر، وعشية الكشف عن هذه الجولة، ذكّر لافروف العالم الثالث بدور الحقبة السوفييتية السابقة في مساعدتها على التحرر من الاستعمار، واعتبر مصر الشريك الاقتصادي الأول لروسيا، وأوضح أن موسكو تساعد القاهرة في تأسيس بنية نووية وصناعية، وكان الرئيس بوتين قد دعا إيران وتركيا ومصر للانضمام للكتلة الاقتصادية الأوراسية، وهذا العرض قد يروج له لافروف أثناء جولته الإفريقية، وسيكون أحد محاور القمة الروسية الإفريقية التي ستعقد في إحدى الدول الإفريقية خلال العام 2022.

من هنا لا يمكن فصل التحركات السياسية والدبلوماسية الروسية عن محاولة بلورة رؤية الرئيس بوتين لإقامة نظام عالمي جديد متعدد المراكز، وتظهر هنا مجموعة شنغهاي، وكذلك بريكس.. كنموذج لمركز عالمي جديد، جاهز للعالمية وللتنافسية، وفيه من عوامل الجذب ما يغري حتى دول أوروبية كألمانيا، وقد نجح بوتين الآن في أن يصبح لبلاده وجود متعدد الأغراض على الضفة الجنوبية من الخليج، وهذا في حد ذاته انتصار تاريخي لبوتين على نظيره بايدن الذي يبرر عودة بلاده للخليج مجددا بسد الفراغ حتى لا تشغله موسكو وبكين، وقد جاءه الرد سريعا.

وإذا لم تتحد دول الخليج العربية ستجد نفسها مستهدفة من الكل، حتى من الأمريكان الذين كشفوا عن دعمهم المالي والسياسي لنشر الإلحاد في المنطقة، وستضيف النيوليبيرالية على القضية أبعادا عميقة ينبغي أن تستشرف من الآن، فهي تضعف قوة الديموغرافية الخليجية، وتجرد ارتباطها بالحكومات بسبب اللجوء إلى فرض الضرائب والرسوم، مع تقليص حجم الإنفاق، وإضعاف الحمايات الاجتماعية، ووجود أعداد كبيرة للباحثين عن عمل.. وهذه ملامح عامة للبيئات الخليجية في حقبة تعدد المراكز الدولية التي ومهما تعددت سيظل المركزان اللذان فيهما موسكو وواشنطن أكثر تأثيرا على السياسة الدولية والإقليمية بعد الوجود الروسي على الضفة الجنوبية للخليج العربي.

وتجد الدول الخليجية العربية نفسها الآن في نفس الظروف التي انتجت ولادة مجلس التعاون الخليجي عام 1981، وكذلك في قلب قناعات قمتي العلا والرياض 2021 اللتين حلت الخلافات الخليجية الخليجية التي اندلعت عام 2017، وقررتا تحقيق الوحدة الخليجية عام 2025، وهذا الهدف المستهدف وفي إطاره الزمني المحدد، هو الحل المثالي لمواجهة التحديات الجيوستراتيجية، ونظيراتها الخليجية الخليجية في ضوء تحولاتها النيوليبيرالية الاقتصادية، وبالتالي لا بد من الاستعجال في تنفيذ أجندات قمتي العلا والرياض، وتعزيز منظومة الحماية الاجتماعية، والحفاظ على الطبقة الوسطى، وعدم نسخ مفهوم الدولة في الغرب داخل المنطقة الخليجية، لأنه يراد زرعه في تربة لا تصلح له، وهم يعلمون أنه سيؤدي إلى صناعة العنف الجديد في المنطقة، مثل ما هم يعلمون أن الاستعانة بالكيان الصهيوني، ودمجه في البنيات الخليجية المدنية والأمنية والعسكرية، يعد من عناصر التوترات الإقليمية المعاصرة.

من هنا، ينبغي الرهان على المنظومة الخليجية اقتصاديا وأمنيا وعسكريا واجتماعيا في مسارين متوازيين هما، الصلح مع طهران وصياغة نظام إقليمي تشارك فيه دول المنظومة الخليجية وإيران ومصر وتركيا - وقد تناولنا ذلك في مقالنا الأخير - خاصة الآن التي تكون فيها طبيعة المرحلة الدولية المقبلة في إطار التشكل الإرادي واللاإرادي.. فهناك فراغات لا بد أن تشغل بإرادات واعية الآن، وبفورية راديكالية.