كيف يتكلم من يرث الهواء المكرور؟ وكيف يكتب من يرث اللغة المعلبة؟ وكيف يُنشد الأطفال في ساحة المدرسة أناشيداً تغلي بحماسة مفرطة لكنها تثقل كاهل النشيد الذي يحمل التلاميذ، حافلةً تَعُبُّ بالمجندين الصغار، إلى حرب مفتوحة الجبهات مع العدم، خوفاً من كل ما هو جديد تحت شعار "غرس الهوية والحفاظ عليها"؟ كان هذا سؤالي الحائر منذ أولى القصائد التي كتبتُها لألقيها على منبر الإذاعة المدرسية، حتى تنسَّمت لغتي موجات صغيرةً من الهواء الطلق، بعد أن خلعتُ أسوار المدرسة وانطلقت بأقل الأعباء إلى الحياة الجامعية، حيث كتابة الشعر عملٌ سريٌّ يحدث في غرفة مغلقة ليُقرأ في مساء اليوم التالي على ثلة ضيقة من الأصدقاء، بعيداً عن العيون الوشيكة لحراس اللغة، التي تراقب الكلمات وما بينها من مسافة غامضة أثناء طابور الصباح حرصاً على سلامة الهواء من التلوث! بعيداً عن أصوات المعلمين المطالبين بـ"شِعر خَدمي" لا يخدم سوى غايات مكشوفة، ولا يُعلن إلا ما هو مُعلن. هذا ما كان يُرجى من أي فعل لغوي وفني تبتكره أقلام التلاميذ وألوانهم في الفصل المدرسي، أو خارجه... لكنني اهتديت إلى هولدرلين أخيراً: " "إذا أخافكم الأساتذة؛ فالتمسوا النصح من الطبيعة". بينما يواصل التلاميذ المنشدون في الساحات والقاعات رفع أصواتهم أعلى وأعلى دون أن يدركوا المعنى بالضرورة، مرددين كلمات فخمة وكبيرة، شيدها "الكبار" بالنيابة عنهم، وأشرفوا على تلحينها لتكون صوتاً جاهزاً للصغار الذين لم تنضج لغتهم بعد، مهما كانت هذه الكلمات بعيدة عن طفولتهم وأحلاهم، ومهما كانت أبعد عن ملامستهم، لا تقولهم ولا تفصح عن شؤونهم الصغيرة!
أما الآن، بعيداً عن المدرسة سنوات وأميالاً تتيح لي الكتابة بلغة حرة، أرى السؤال القديم وهو يتشعَّب أسئلةً جديدةً على خارطة الكلام:
هل نهض التعليم المدرسي من عقيدته القديمة في تلقين اللغة وفنونها إلى ما يصحُّ أن ندعوه "تربيةً لغوية" على غرار "التربية الفنية"؟ أعتقد بأن اللغة المتفشية اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي لهي عينة كفيلة بتقديم إجابة ما، ولو مستعجلة، على هذا السؤال الذي ما زال خافتاً في الكثير من النقد الموجه إلى المؤسسة التعليمية، والذي لا بدَّ أن نحتكم إليه في يوم من الأيام بشكل أكثر وضوحاً وصراحة، كما أظن.
هل يؤسس منهاج اللغة العربية، المقرر على الصغار، نموذجاً حقيقياً لأدب الطفل؟ هذا سؤال مفتوح لوجهات النظر الحر، وقبل ذلك للأدباء والكتاب المشتغلين على هذا الحقل الأدبي المهم، والذي ما زال هامشياً في الكتابة العربية للأسف، بالرغم من الأسماء المميزة التي برزت مؤخراً على المشهد الثقافي مكافحة لتأسيس حالة جديدة تجعل من الطفل عضواً مهماً في نادي الكتابة المفتوح وقارئاً يساهم في الحركة الأدبية، يفرض الانتباه إليه ويشجع الكبار على رعاية نموه بعين ذكية وحانية ترعى شُجيرة تتفتح في ظل هادئ، بعيداً عن الأسلاك الشائكة التي تسيّج الوعي المبكر وتردعه من ارتكاب السؤال، وتحاصره بالمحاذير والممنوعات أمام رفوف المكتبات... لكن الطفل في المدرسة ما زال يُقلق معلم اللغة العربية في علاقته بالنص، كما يُقلق أباه في البيت إذ يتعلق بمفردة غريبة عن معجمه، خرجت سهواً على المائدة، وإذ يسأل ببراءة عن معنى لفظة "سوقية" طائشة.
هل تمكن التعليم "الحديث" في مدارسنا من "تطبيع" اللغة الشعرية المعاصرة في ذائقة أجيال جديدة سترتاد الجامعات عما قليل، وقد تتورط بكتابة الشعر ربما، وتجترح أشكالاً جديدة؟ لقد تفاجأ الشعراء قبل غيرهم بإجابة التلاميذ في مثل هذه الأيام من العام الماضي (وهذا من باب المصادفة فقط) عندما تصدرت على تويتر "مظاهرة" افتراضية كانت وراءها قصيدة للشاعر العماني سيف الرحبي، أو للدقة: كانت حول الأسئلة الركيكة التي تبِعتْ القصيدة في ورقة الامتحان النهائي. مناسبة نادرة، ومفاجأة تحمل مفاجأتين، الأولى هي أن يتصدر الشعر جدل الرأي العام بعد كل هذا الغياب والتغييب، أما الثانية فهي كون تلاميذ الدبلوم العام، أنفسهم، هم من تداعوا لهذه المظاهرة! لكن موجة الجدل ستقفز فوقهم، ستتجاوز القصيدة وشاعرها إلى الجدل القديم العقيم حول شرعية قصيدة النثر، وهذا ما يعكس بسفور حجم الهوة التي تتسع في ذائقة القُراء، كباراً وصغاراً على حد سواء، بين مفهوم الشعر الملقَّن في المدارس من جهة ولغة الشعر الجديد المنشور في المجلات والمطبوع في آخر الإصدارات الشعرية، وكأن التلميذ يطالع فنين مختلفين تماماً. أوجز سليمان المعمري ما حدث في ذلك الأسبوع بتعليقه الذي نُشر على جريدة عُمان تحت عنوان "برد الأكل بينما هم يتجادلون!" إذ أشار إلى المظلمة التاريخية التي لحِقت بالشعر العربي الجديد في مدارسنا بقوله: " ظُلِم في مناهِجِنا مرتين؛ الأولى بتأخر تدريسه وبشكل خجول ذرًّا للرماد في العيون، والثانية بإيكال مهمة التدريس هذه لنوعية من المدرّسين يمكن تسميتهم بــ«متعصّبي الوزن»، فهم أنفسُهم لم يَدرُسُوا هذا النوع من الشعر (وأعني به قصيدة النثر)، فلم يتقبّلوه أو يستسيغوه، وانعكس هذا على تدريسهم له"... وستظل قصيدة النثر مطاردة دوماً بالسؤال عن شرعيتها لا عن شعريتها!
عموماً، هناك حالة عامة من سوء الفهم في علاقة الجماهير بالشعر، تنشأ من المدرسة والبيت الأول اللذين يتناوبان على تجريد الفن من الجماليّ لصالح ما هو "تربويّ"، ولا أدري حقاً كيف ومتى حدث هذا الصدع بين مفهومين متناغمين بالفطرة والبديهة، حتى باتا متعارضين إلى هذه الدرجة في السياسات التعليمية المتبعة. تهميش الجماليّ تهميش للحواس التي تطور ذكاء القلب، ونتيجة لهذا التجريد تصبح القراءة مجرد استجداء لـ"الفائدة" ونبذٍ للمتعة، متبوعة بسؤال المعلمين التقليدي: "ما الدرس المستفاد من قصة اليوم؟" هكذا، أيضاً، يتحول النص من عمل إبداعي إلى محاضرة تربوية لاستنباط قيم مرصودة سلفاً، قد تكون بحد ذاتها نبيلة ومهمة، وطنية ودينية وأخلاقية، لكن مزاج الشعر أصعب من أن يطوَّع بهذه الطريقة وتحنى عناقيده حتى يلائم ما يشتهي "المرّبون". ولعلني أطالع في مقدمة أدونيس للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب ما يشفي فكرتي من الالتباس ويجلوها أكثر للقارئ: "بدر شاكر السياب من بين الشعراء القلة الذين يرون أن مشكلة الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية لا تكمن في الشعر ذاته، بقدر ما تكمن في الثقافة. فهي، لأسباب كثيرة، دينية وإيديولوجية، ضيّقة على الشعر: إنها تحُدُّ بالرقابة الكامنة فيها عضوياً، من اندفاعاته وتفجُّراته الحرة، وتُقلّص آفاقه في أنفاق سياسية واجتماعية". والغريب أن تقوّض الثقافة نفسها بأهم أدواتها، فتصبح خلالها اللغة، التي هي جسد الثقافة، نظاماً من قواعد النحو والصرف والإملاء، أما الشعر فلا يعدو كونه مصفوفة من القوافي والأنماط اللغوية والكلمات المعبأة بالصدى... أهي جناية الثقافة (الناس) على نفسها؟!
أما الآن، بعيداً عن المدرسة سنوات وأميالاً تتيح لي الكتابة بلغة حرة، أرى السؤال القديم وهو يتشعَّب أسئلةً جديدةً على خارطة الكلام:
هل نهض التعليم المدرسي من عقيدته القديمة في تلقين اللغة وفنونها إلى ما يصحُّ أن ندعوه "تربيةً لغوية" على غرار "التربية الفنية"؟ أعتقد بأن اللغة المتفشية اليوم في مواقع التواصل الاجتماعي لهي عينة كفيلة بتقديم إجابة ما، ولو مستعجلة، على هذا السؤال الذي ما زال خافتاً في الكثير من النقد الموجه إلى المؤسسة التعليمية، والذي لا بدَّ أن نحتكم إليه في يوم من الأيام بشكل أكثر وضوحاً وصراحة، كما أظن.
هل يؤسس منهاج اللغة العربية، المقرر على الصغار، نموذجاً حقيقياً لأدب الطفل؟ هذا سؤال مفتوح لوجهات النظر الحر، وقبل ذلك للأدباء والكتاب المشتغلين على هذا الحقل الأدبي المهم، والذي ما زال هامشياً في الكتابة العربية للأسف، بالرغم من الأسماء المميزة التي برزت مؤخراً على المشهد الثقافي مكافحة لتأسيس حالة جديدة تجعل من الطفل عضواً مهماً في نادي الكتابة المفتوح وقارئاً يساهم في الحركة الأدبية، يفرض الانتباه إليه ويشجع الكبار على رعاية نموه بعين ذكية وحانية ترعى شُجيرة تتفتح في ظل هادئ، بعيداً عن الأسلاك الشائكة التي تسيّج الوعي المبكر وتردعه من ارتكاب السؤال، وتحاصره بالمحاذير والممنوعات أمام رفوف المكتبات... لكن الطفل في المدرسة ما زال يُقلق معلم اللغة العربية في علاقته بالنص، كما يُقلق أباه في البيت إذ يتعلق بمفردة غريبة عن معجمه، خرجت سهواً على المائدة، وإذ يسأل ببراءة عن معنى لفظة "سوقية" طائشة.
هل تمكن التعليم "الحديث" في مدارسنا من "تطبيع" اللغة الشعرية المعاصرة في ذائقة أجيال جديدة سترتاد الجامعات عما قليل، وقد تتورط بكتابة الشعر ربما، وتجترح أشكالاً جديدة؟ لقد تفاجأ الشعراء قبل غيرهم بإجابة التلاميذ في مثل هذه الأيام من العام الماضي (وهذا من باب المصادفة فقط) عندما تصدرت على تويتر "مظاهرة" افتراضية كانت وراءها قصيدة للشاعر العماني سيف الرحبي، أو للدقة: كانت حول الأسئلة الركيكة التي تبِعتْ القصيدة في ورقة الامتحان النهائي. مناسبة نادرة، ومفاجأة تحمل مفاجأتين، الأولى هي أن يتصدر الشعر جدل الرأي العام بعد كل هذا الغياب والتغييب، أما الثانية فهي كون تلاميذ الدبلوم العام، أنفسهم، هم من تداعوا لهذه المظاهرة! لكن موجة الجدل ستقفز فوقهم، ستتجاوز القصيدة وشاعرها إلى الجدل القديم العقيم حول شرعية قصيدة النثر، وهذا ما يعكس بسفور حجم الهوة التي تتسع في ذائقة القُراء، كباراً وصغاراً على حد سواء، بين مفهوم الشعر الملقَّن في المدارس من جهة ولغة الشعر الجديد المنشور في المجلات والمطبوع في آخر الإصدارات الشعرية، وكأن التلميذ يطالع فنين مختلفين تماماً. أوجز سليمان المعمري ما حدث في ذلك الأسبوع بتعليقه الذي نُشر على جريدة عُمان تحت عنوان "برد الأكل بينما هم يتجادلون!" إذ أشار إلى المظلمة التاريخية التي لحِقت بالشعر العربي الجديد في مدارسنا بقوله: " ظُلِم في مناهِجِنا مرتين؛ الأولى بتأخر تدريسه وبشكل خجول ذرًّا للرماد في العيون، والثانية بإيكال مهمة التدريس هذه لنوعية من المدرّسين يمكن تسميتهم بــ«متعصّبي الوزن»، فهم أنفسُهم لم يَدرُسُوا هذا النوع من الشعر (وأعني به قصيدة النثر)، فلم يتقبّلوه أو يستسيغوه، وانعكس هذا على تدريسهم له"... وستظل قصيدة النثر مطاردة دوماً بالسؤال عن شرعيتها لا عن شعريتها!
عموماً، هناك حالة عامة من سوء الفهم في علاقة الجماهير بالشعر، تنشأ من المدرسة والبيت الأول اللذين يتناوبان على تجريد الفن من الجماليّ لصالح ما هو "تربويّ"، ولا أدري حقاً كيف ومتى حدث هذا الصدع بين مفهومين متناغمين بالفطرة والبديهة، حتى باتا متعارضين إلى هذه الدرجة في السياسات التعليمية المتبعة. تهميش الجماليّ تهميش للحواس التي تطور ذكاء القلب، ونتيجة لهذا التجريد تصبح القراءة مجرد استجداء لـ"الفائدة" ونبذٍ للمتعة، متبوعة بسؤال المعلمين التقليدي: "ما الدرس المستفاد من قصة اليوم؟" هكذا، أيضاً، يتحول النص من عمل إبداعي إلى محاضرة تربوية لاستنباط قيم مرصودة سلفاً، قد تكون بحد ذاتها نبيلة ومهمة، وطنية ودينية وأخلاقية، لكن مزاج الشعر أصعب من أن يطوَّع بهذه الطريقة وتحنى عناقيده حتى يلائم ما يشتهي "المرّبون". ولعلني أطالع في مقدمة أدونيس للأعمال الشعرية الكاملة لبدر شاكر السياب ما يشفي فكرتي من الالتباس ويجلوها أكثر للقارئ: "بدر شاكر السياب من بين الشعراء القلة الذين يرون أن مشكلة الشعر في المجتمعات الإسلامية العربية لا تكمن في الشعر ذاته، بقدر ما تكمن في الثقافة. فهي، لأسباب كثيرة، دينية وإيديولوجية، ضيّقة على الشعر: إنها تحُدُّ بالرقابة الكامنة فيها عضوياً، من اندفاعاته وتفجُّراته الحرة، وتُقلّص آفاقه في أنفاق سياسية واجتماعية". والغريب أن تقوّض الثقافة نفسها بأهم أدواتها، فتصبح خلالها اللغة، التي هي جسد الثقافة، نظاماً من قواعد النحو والصرف والإملاء، أما الشعر فلا يعدو كونه مصفوفة من القوافي والأنماط اللغوية والكلمات المعبأة بالصدى... أهي جناية الثقافة (الناس) على نفسها؟!