تهتم سلطنة عمان منذ القدم بفنونها وتراثها المادي بذات الاهتمام الذي يحظى به التراث غير المادي الذي يشكّل الهوية الثقافية الخاصة لكل بقعة فيها؛ إذ تتكامل رؤية عُمان 2040 بين الإنسان العماني في شخصيته وبين تراثه الكبير، حيث تضع أول أهدافها في مجال المواطنة والهوية والتراث والثقافة الوطنية بناء مجتمع يعمل على «المحافظة على تراثه، وتوثيقه ونشره عالميا»، كما أن من بين تلك الأهداف «الاستثمار المستدام للتراث والثقافة والفنون بهدف الإسهام في نمو الاقتصاد الوطني»، إضافة إلى ذلك فإن «التراث» يشكل الجزء المهم للمواطنة؛ إذ كان المحرك الأساسي لانضمام سلطنة عمان إلى اتفاقية صون التراث الثقافي غير المادي في عام 2005 وعززه قانون التراث الثقافي المعني بالتراث الثقافي غير المادي وهو «التراث الثقافي غير الملموس، ويشمل الممارسات أو العادات أو التقاليد أو أشكال التعبير أو المعارف أو المهارات، وما يرتبط بها من آلات أو قطع أو مصنوعات أو فضاءات ثقافية، المتوارث جيلا عن جيل، وتبتدعه الجماعات أو المجموعات أو الأفراد».

تشكّل «اللهجة» البصمة الثقافية للإنسان والشكل المرتبط بالتواصل في محيط المكان، ويشكّل تعدد اللهجات في المحيط الأكبر ثراء يعكس أصالة الإنسان واندماجه باللغة الأم رغم الممارسة الطبيعية لـ«الحكي» المتوارث وجهل الجذر اللغوي للمفردة، وقد أظهرت لهجات سلطنة عمان بتنوعها الجغرافي والديموغرافي ارتباط المفردات العامية باللغة العربية بأي حال من الأحوال عند العودة إلى أصولها التي تشكلت منها، ورغم الإغراق الكبير للحداثة عبر مكوناتها المختلفة في الممارسات وأشكال التعبير المختلفة في المجتمع إلا أن الحرص على إبقاء الأصيل منه يشكل جزءًا من اهتمام جيل الشباب الذي غاص في النزر اليسير من تلك المكونات إذا ما سلّمنا قطعا بالاهتمام الكبير الذي توليه الحكومة عبر مؤسساتها المعنية للحفاظ على تلك الممارسات الأصيلة وكل أشكال التراث غير المادي لجيل قد يغوص في الغَزُرَ ولا يعي أي نزر كان.

دفعني لفكرة هذا المقال أغنية عمانية حديثة تم تداولها مؤخرا على نحو واسع وحملت عنوان «عمّتِيَه» وهي الـ(عَمَّة: أخت الأب) مضاف في نهايتها ياء المتكلم بإمالة حركة الياء إلى الكسرة، وهي مفردة من مفردات كثيرة تتميز بها لهجة ولاية السويق تحديدا -رغم اختلاف النطق حتى في السويق نفسهاـ من منطقة إلى أخرى)، دفعني نتيجة هذا الجهد الواضح في الأغنية إلى الحديث حول أهمية وضع هذا الشكل كأحد الأشكال التوثيقية التي تختصر التعريف بلهجة مكان ما لهذا الجيل خاصة وأن تصوير الأغنية مازج بين القديم كشكل في الكلمة وبين الحديث في طرح النص، إضافة إلى المفردات الأخرى التي واكبت الصورة كالملابس والأكسسوارات التقليدية ومواقع التصوير ومزجها بمفردات حديثة تستهدف جذب هذا الجيل نحو تلك «المعرفة المبسطة»، ورغم البساطة في كل شيء إلا أن هناك جهدا كبيرا مبذولا وواضحا قامت به مجموعة موسيقية عمانية شابة عرّفت عن نفسها بأنها «مجموعة تبحث عن لحظاتكم الإنسانية، تستكشفها، تشتغل عليها، وتقدمها لكم»، ولا شك أن هذا البحث العميق وهذا الاشتغال الواضح لن يقدم إلا نتاجا ثريا يغوص عبر «اللهجة» في عمق المجتمع ويلامس واقعه، فشكرا لتلك الجهود الشابة التي تستحق كل الدعم.