انشغل الإعلام العربي التقليدي والجديد بزيارة الرئيس الأمريكي بايدن الأولى للسعودية؛ كتابات وتوقعات وسيناريوهات متخيلة قبل الزيارة، كل كاتبٍ وفق منطلقاته وآماله ورؤاه. مرحلةُ ما قبل الحدث في الإعداد والتحضير للزيارة المرتقبة سواء في تتبع التفاصيل، أو في تهيئة الجماهير ذهنيا وفكريا لهذه الزيارة بين محاولة للتمويه وأخرى للتوجيه.

مرحلة الزيارة نفسها وتوثيق أدق تفاصيلها بداية من لغة الجسد وإيماءات وتعابير الوجه، وختاما بالحوارات المختلفة حيثما ولّى الزائرُ وجهه سواء كانت حواراتٍ معلنةً مسجّلةً أو محاولةً لتسريب أو استقراء حتى السريّة منها.

مرحلة ما بعد الزيارة وتحليل وتفنيد وتأويل كل ما صدر عنه من قول أو فعل أو سلوك أو حتى توقيع، كل ذلك وفقا لانتماء المحلل والقارئ والمتلقي، ثم قناعاته بين منتصر لبايدن -لا محبة به بل نكاية في روسيا والصين- ومنتصر عليه بتأويل الزيارة (عجبا) على أنها خضوع واستسلام لقوى الشرق الأوسط عموما والخليج خصوصا بعد تيقن من أهميته!

وبين محبيه ومبغضيه (في مجاميع من البشر تحركها العاطفة لا العقل) تصدّرت مجموعةُ موضوعاتٍ صدرَ الحواراتِ الحقيقية أو المختلقة عمّا جرى خلال زيارة بايدن، من بينها: قضية فلسطين وموقف بايدن منها، وهنا كذلك لا يمكن لمتابع التحليلات إلا أن يقع في بلبلةٍ بل وتهالكٍ ذهني بين من زكّى الزائرَ عن أيِّ عداءٍ للعرب جاعلا إياه ندمانَ أسِفا على ما أسلف من عدائه، وأنه (أي بايدن) لم يأتِ إلا ليستعتب العرب سعيا لرضاهم ونيل محبتهم إذ يَجُبُّ العتابُ ما قبله، وآخر يجعل منه شيطانا ما جاء إلا ليعبّر عبر العرب لنصرةِ الصديقةِ التاريخية «إسرائيل» وتقوية شوكتها في هذا الشرق المنهكِ حسرةً وأسىً .

إيران ومواقفها من قضايا الشرق الأوسط كذلك لم تغب عن مشهد هذه الزيارة تحضيرا وتفسيرا، وستبقى إيران أفضل وأقوى «فزاعات» أمريكا لاستنفار قوى المنطقة الدفاعية التي تغذيها وتتغذى عبرها ولن يفوتها حتى في زيارة أولى لهذا الرئيس تحريك رماد هذه النار لضمان اشتعاله أولا حتى يبقى فتيلُ الاستنزاف فاعلا قابلا للاشتعال متى شاءت أو شاء الحلفاء، ثم لتشتيت اهتمام وعناية الجماهير العربية عن عدو أصيل هو «إسرائيل» لعدو مختلق هو «إيران»..

ومع كل هذا الصخب وكل ما تضج به وسائل الإعلام العربية من احتفاء أو تنديد بالزيارة الأمريكية إلا أن السياسة؛ سياسة المصالح لا تعترف بالصداقات ولا حتى بالعداوات، وكل اعترافها يرتكز على مصالح الدول والشعوب، وللأسف لا يُقصد بالجمعِ هنا مصلحة جميع الدول وجميع الشعوب إذ تتباين المصالح وتتبدل، وإنما القصد بأن السياسي يسعى لمصلحة بلاده دون كبير عناية بمصالح الآخرين، لذلك فالرجل (بايدن) جاء للمنطقة واضعا نصب عينيه أهدافا محددة ولم يغادر إلا وقد اطمأن لتحققها.

نبقى نحن من مواقع مختلفة «بخفيّ حنين» نلوكُ تفاصيل الزيارة وتأثيراتها الآنية والمرحلية، ونغذي عواطفنا محبة أو عداء تجاه أمريكا، أو روسيا والصين، أو إيران ويعود الزائر البراغماتي لموقع عمله حيث يحتفي بتحقق أهداف زيارته، بل وربما بلوغ أهداف أخرى لم يكن قد وضعها بالحسبان.

وعبر كل هذا الصخب وهذه النزالات الافتراضية والواقعية لهذه الزيارة وسابقاتها ولاحقاتها نتساءل: ترى هل تجاوز العرب دورهم في كونهم ملعبا لصراعات غربية غربية، أو غربية شرقية، أو غربية عربية لأدوار أخرى فاعلة ومشاركة؟ أم أن الزي تبدّل ولم يتبدّل الميدان ولا تغير الفرسان؟ أكلُّ الممكنات والموارد الطبيعية والبشرية الشرقية (ولا نقول العربية فقط) لم تصل بهذا الشرق إلى اكتفاء يقيه شر احتفاءات أو احتشادات لزيارة كهذه لا ينبغي أن تكون محورا لأسابيع من اهتمامنا إلا حين يغدو الآخر محرّكا لاهتماماتنا وأولوياتنا وقضايانا، وإلى أن يتغيّر ذلك سنصنّع الأمل في وحدة تكتلات شرقية فاعلة تُبنى على التكامل الجغرافي والثقافي والاقتصادي بعيدا عن أطماعٍ شتى تعتاشُ من سيادة القويّ بتفرّق الجمع وتكسّر العصيّ.