ـ ما تفسير قوله تعالى: «مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ»؟

هذه الآية الكريمة من سورة الحج جاءت بعد أن تحدث القرآن الكريم عن صنفين من الناس، أما الصنف الأول فهم الذين ذكرهم بقوله: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ» وذكر بعض خصالهم وصفاتهم ثم قال أيضا مبينا صنفا آخر فقال: «وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَىٰ حَرْفٍ ۖ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ ۖ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَىٰ وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ» وذكر بعض صفاتهم وما يحصل لهم ثم قال: «مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ»، ومن معاني مفردات بعض الآية الكريمة قبل أن ندخل في معناها الإجمالي ما يتصل بمفردة «فليمدد بسبب» فإن السبب الأصل فيه هو الحبل الذي يصعد به على النخل، ثم استعمل عبارة عن كل ما يتوصل به إلى شيء، ماديا كان أو معنويا، فيمكن أن يتذرع بشيء للوصول إلى غاية فإن ذلك يصدق عليه أنه سبب، فالله تبارك وتعالى يقول في كتابه: « فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ» ويقول: «وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا فَأَتْبَعَ سَبَبًا ْ» فالأصل فيه أنه الحبل الذي يصعد به على النخل أو الحبل مطلقا ثم استعمل لكل ما يتوصل به إلى غاية وهذا الاستعمال كثير في كتاب الله عز وجل، هذه هي المفردة التي قد يخفى معناها على الناس رغم أن المفسرين أيضا تعرضوا لمعنى السماء، والأصل في السماء هي كل ما علاك مما يظلك، فهي تصدق على السقف، وعلى السحب، وعلى كل ما علاك من السماء المعهودة، وبناء على تفسيرهم لمعنى السماء اختلفت كلمتهم في معنى الآية الكريمة كما يأتي، فالجمهور رأى أن الضمير المبني الذي هو في محل نصب مفعول به في « مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ» يعود إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فالنصرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم فهؤلاء الذين يغلب عليهم الظن أن الله تبارك وتعالى لن ينصر رسوله في الدنيا ولا في الآخرة فإن القرآن الكريم يخاطبهم مهددا بقوله: «فليمدد بسبب إلى السماء» وقالوا هو حبل يعلقه في سقف بيته ثم ينيط نفسه به ثم يقطع ذلك الحبل حتى يسقط، وتختنق أنفاسه حتى يموت، فهل هذا الكيد وهذا الترتيب الذي قام به من مد الحبل وتعليقه في السقف ثم تعليق نفسه وقطع الحبل واختناقه، هل أدى إلى زوال ذلك الغيظ والحنق الذي في نفسه الناشئ عن ظنه أن الله تبارك وتعالى لن ينصر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهذا المعنى هو قول أكثر المفسرين، ولا ريب أن فيه من الخفايا والغموض ما لا يخفى، وكثير من المعاصرين يعترض على هذا التفسير بمثل القول أن التفسير السابق فيه دعوة إلى الانتحار، ولكن ما ذهب إليه بعض المفسرين ومنهم العلامة الطاهر بن عاشور في التحرير والتنوير هو أكثر إقناعا، ومع ذلك نجده لا يختلف كثيرا مع ما ذهب إليه جمهور المفسرين، وبالبيان يتضح المقال.

فالآية عند هؤلاء المفسرين هي تذييل لما تقدمها، وآخر الأصناف التي ذكرت هم صنف من يعبد الله تعالى على حرف، هؤلاء قوم دخلوا في الاسلام رجاء المغانم التي يمكن أن تتحقق لهم فلم يحصل لهم ذلك عاجلا كما كانوا يرجون، فاستبطأوا هذه المغانم فأورثهم ذلك حنقا وغيظا لأنهم تعجلوا في الدخول في الدين، ولم يتريثوا في أمره، ولأنهم غير قادرين على الخروج منه، هذه هي الصورة التي ترسمها لنا الآيات الكريمة لهذا الصنف من الناس الذين يعبدون الله تعالى على حرف، فهم في اضطراب وقلق يبتغون المغانم الدنيوية العاجلة، ولكن لم تحصل لهم كما كانوا يرجون ويبغون، وفي هذه الحالة لم تأت هذه الآية الكريمة بعطف، فلم يقل ربنا تبارك وتعالى: ومن كان، ولم يقل: ومن الناس، لم يأت فيها عاطف ولم تأت كما جاء ذكر الصنفين السابقين، مصدرا كل صنف منها بقوله تعالى: «ومن الناس» فهذه جاءت: « مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» فهي تذييل تحمل معنى الكشف والبيان للسبب الباعث لهؤلاء الذين يعبدون الله على حرف، فإنهم يرجون المغانم القريبة الدنيوية والنصر العاجل، وإبطاء حصول ذلك جعلهم يشككون ويرتابون، وأن النصر لم يحصل لهم بدخولهم في هذا الدين، فحمل الضمير على من كان يظن، أو أنه لمحمد صلى الله عليه وسلم لا يؤدي إلى فارق كبير.

وقوله تعالى: « فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ» جاء على سبيل التهديد والإنذار والتعجيز والتهكم، أي افعلوا كل ما في وسعكم إن كان ذلك يمكن أن يغير من حقيقة الدين، ومن حقيقة نصرة الله تبارك وتعالى لدينه ونبيه وللمؤمنين في الدنيا وفي الآخرة وفق إرادته وحكمته وتدبيره وتقديره لا وفق رغباتكم وتوقيتكم وتقديركم، فافعلوا ما شئتم، اصعدوا إلى السماء، مدوا إليها الحبال، وخذوا بالأسباب التي توصلكم إلى السماء، تعلقوا بها ثم اقطعوا هذه الحبال، صورة تشبيهية في بيان العجز، وهي تحمل معنى الإنذار والتهديد بأن نصر الله تبارك وتعالى لنبيه ولدينه كائن شئتم أم أبيتم، استبطأتم أو استعجلتم، وهل يذهب هذا التدبير الذي صنعتم في محاولة التخفيف والذهاب بهذا الغيظ وهل سيغير من الحقائق شيئا، لا بطبيعة الحال.

ـ ما صحة الرواية التي وردت عن النمرود الطاغية بأن ذبابة أو بعوضة سلطها الله عليه في رأسه فكانت سببا في موته؟

ليس لهذا القول سند صحيح، ولا يستند إلى رواية مرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهنا قضيتان، فهذا الملك حسب التفسير هو الذي حاج إبراهيم في ربه وقيل إنه أول من ملك الأرض فتجبر فيها، وهذا الملك اسمه النمرود أو النمروذ هذا مما ذكره بعض المفسرين، ومن أوائل من ذكره مجاهد في تفسيره، وتلقاها المفسرون بالقبول، ولكن أن يقطع أن اسمه كان النمرود لا سبيل إلى ذلك، ولا يوجد ما يمنع من قبول هذا القول، ولكن ما يتعلق بسبب وفاته فليس لهذه القصة أي سند صحيح، ومن أوائل من ذكرها الامام الطبري في «جامع البيان» ولكن لم يذكرها مرفوعة وأظن بأنها منسوبة إلى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، ولا شيء يعضد هذه الرواية فهي بناء على هذا مجرد قول من أقوال المفسرين لا تستند إلى دليل قوي يمكن أن يعول عليه، ذكرت في سياق بيان حكمة الله تبارك وتعالى في خلقه، ومن الاتعاظ بأن الله يمكن أن يسلط أضعف مخلوقاته على من يدعي الجبروت والعلو في هذه الأرض فيكون ذلك المخلوق الضعيف سببا في القضاء عليه، لكن لا ريب أن مثل هذه العظة والعبرة تحصل بأدلة صحيحة، والأقرب أن هذه الرواية أن تكون غير صحيحة، ويوجد مثل هذه القصة في الإسرائيليات، والله تعالى أعلم.

ـ رجل قصر ولم يوص للأقربين، ربما مع مكنته، فإذا قام أبناؤه بذلك هل يغني لسداد هذا التقصير؟

الحاصل أن تصرف الورثة صحيح وهم يؤجرون على ذلك، وهل ينفع ذلك ميتهم؟ فالله أعلم. إن كان من أهل الخير والصلاح، وفاته أن يكتب وصيته للأقربين، لسبب أو لآخر، فعسى أن ينفعه صنيع ورثته، لكن هذا لا يغير من أن الورثة الأولى بهم أن يخرجوا وصية الأقربين، بل أن البعض يذهب إلى أن ذلك واجب عليهم طالما أن في التركة سعة فإن الوصية للأقربين نظرا لما فيها من حق لله تبارك وتعالى وحق للأقربين فإنها تكون من أصل المال وإن لم يوص بها الموص، بناء على ذلك فإن على الورثة أن يؤدوا هذه الوصية عن ميتهم، وعسى أن تنفعه ولا أقل من أن يقال إن ذلك من برهم به بعد وفاته، وأن يحمل على أحسن الوجوه والمحامل، وربما لعله فاته ذلك ربما لعدم معرفته للحكم الشرعي، أو لم يبلغه ذلك، أو أنهم لم يجدوا الوصية أو أنه أوصى شفاهة إلى من لم يخبرهم إلى الآن، فعسى أن يكون ذلك نافعا له، والله تعالى أعلم.