نوهت في مقالي السابق إلى أهمية الأخلاق العملية في حياتنا الإنسانية؛ ولهذا تعددت العلوم الفلسفية التي تُعنى بالأخلاقيات التطبيقية، أي بالمبادئ التي يمكن أن توجه تطبيق الأخلاق في مجال الحياة العملية. ومن أهم هذه العلوم علم أخلاقيات الطب Medical Ethics؛ لأن ممارسة الطب (التي كانت تُسمى قديمًا التطبيب) تتعلق بأهم شيء في حياة الإنسان: صحته نفسها؛ ولهذا كانت مهنة الطب من أقدم المهن وأشرفها عبر العصور، حتى إن الطبيب كان ولا يزال يسمى بالحكيم (على الأقل في بعض البلدان العربية). التاريخ العريق لهذه المهنة جعل لها أخلاقياتها الخاصة بها، حتى إننا نستطيع الحديث عن صورة أولية للمواثيق الطبية الأخلاقية في قسم أبقراط المشهور (460 -357 ق.م)، وفي بعض كتابات علماء ومفكري الإسلام. ومع ذلك، فإننا منذ البداية ينبغي أن نضع في اعتبارنا الملاحظات التالية:

• الكتابات التاريخية عن أخلاقيات الطب وأخلاق الطبيب لا تستوعب المشكلات الأخلاقية في علم أخلاق الطب الراهن، لأنها مشكلات أو معضلات جديدة نشأت بفعل التطور المذهل في العلوم الطبية والحيوية.

• المشكلات الأخلاقية هنا شديدة التعقيد؛ لأن البعد الأخلاقي فيها يتداخل مع أبعاد أخرى عديدة: كالبعد الديني، والقانوني، والاجتماعي، والنفسي.. إلخ.

• ليست كل المشكلات الأخلاقية الطبية على الدرجة نفسها من الإرباك: فقد تكون حالة سلوك الطبيب إزاء مرضاه، خاصة فيما يتعلق بمبدأ السرية، أقل إرباكًا بحيث يسهل الوصول إلى قاعدة تبرر عدم جواز إفشاء الطبيب لأسرار المريض، مع بيان الحالات المختلفة التي يجوز فيها للطبيب كسر هذه القاعدة وفقًا لمبررات أخلاقية. ولكن هناك حالات أخرى كثيرة أشد إرباكًا، مثل: الاستنساخ، وزراعة الأعضاء، والإجهاض، والقتل الرحيم؛ وهي القضايا التي يدور حولها الجدل الآن في علم أخلاق الطب.

• • •

الملاحظات السابقة هي ملاحظات عامة، ولكنها تثير في الأذهان التساؤل:

هل للإسلام شأن بمشكلات الأخلاق الطبية، ثم بعلم أخلاق الطب؟ وبصياغة أخرى أكثر بساطة: هل هناك منظور إسلامي لأخلاقيات الطب؟ إن الإجابة عن هذا السؤال تقتضي أن نضع في اعتبارنا أيضًا الملاحظات الآتية:

• إن الإسلام – كأي دين – لا شأن له بالعلم بمعناه الدقيق: فلن نجد في الإسلام كلامًا في العلم، أي كلامًا في نظريات العلم كالنظريات الطبية والحيوية ونظريات الهندسة الوراثية.. إلخ. ومع ذلك، فإننا يمكن أن نلتمس في الإسلام كلامًا، لا في العلم، وإنما عن العلم، أي عن موقفنا الأخلاقي إزاء العلم.

• ومن ثم، فإن هناك مشروعية في قيام علم أخلاق إسلامي للطب Islamic Medical Ethics، أي كلام عن أخلاقيات الطب من وجهة النظر الإسلامية. وهذا يفسر لنا لماذا شاعت في الآونة الأخيرة كتابات، ومواقع عديدة على شبكة المعلومات، بل جمعيات علمية خاصة بالطب الإسلامي وأخلاقياته.

• ولا شك في أن هذه الإسهامات الحديثة في مجال أخلاقيات الطب الإسلامي غالبًا ما تستدعي إسهامات تراثنا الفكري في هذا المجال لدى الكندي وابن سينا وابن رشد، فضلًا عن الكتاب الشهير لإسحاق الرُهاوي بعنوان: «أدب الطبيب»، وهو كتاب يتناول مسائل أخلاقية من قبيل: أمانة الطبيب وأخلاقياته، وما ينبغي أن يتوخاه الطبيب ويحذره، وفيما ينبغي أن ينظر فيه الطبيب من الأدوية المفردة والمركبة، وفيما ينبغي للطبيب أن يسأل عنه المريض وغيره ممن يتولى خدمته، إلخ.

• ولكن الأهم من ذلك كله أن نقترب من مسألة أخلاقيات الطب في الإسلام بحذر شديد، فلا نندفع وراء الدعاوى التي تروج لمفهوم «الطب الإسلامي»، التي تصور لنا أننا يمكن أن نجد في الإسلام حلولًا لسائر مشكلات الطب، وتضفي على هذا العلم صبغة دينية. ذلك أن العلم لا دين له؛ وبالتالي فإن الحديث عن أخلاقيات إسلامية في مجال الطب لا يعني مطلقًا أن نلصق صفة «إسلامي» بعلم الطب من خلال مقولة «الطب الإسلامي». وهذا تمييز بالغ الأهمية، ينبغي أن يظل حاضرًا في الأذهان: أعني التمييز بين العلم ذاته، وبين الموقف الأخلاقي من العلم، أي بعبارة أخرى: التمييز بين نظريات العلم ومكتشفاته المستقلة بطبيعتها عن الدين والأخلاق، وبين الإجراءات المتعلقة بتطبيق هذه النظريات والمكتشفات، حيث إن هذا المجال الأخير ينبغي أن يخضع لمواقف وتوجهات أخلاقية.

فإلى أي حد يمكن فهم علاقة المنظور الإسلامي بعلم أخلاق الطب؟ وهل يمكن أن نتخذ هذا المنظور مرجعية نهائية لسائر المشكلات في إطار هذا العلم؟

إنَّ الإجابة عن السؤال السالف تقتضي النظر في التطبيقات، أي أن ننظر في نماذج من المشكلات الأخلاقية الطبية التي يدور حولها الجدل الراهن، ونستعرض الإجابات التي يمكن أن نلتمسها في المنظور الإسلامي، لنرى بعد ذلك إذا ما كانت هذه الإجابات كافية أم أنها لا تستوعب بذاتها سائر الإشكالات المتضمنة هنا؟ وهناك نموذجان بارزان من المشكلات الأخلاقية الطبية هما: الإجهاض، والقتل الرحيم، وسوف نتناول كل منهما على حدة في المقالين التاليين.

د. سعيد توفيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة ومؤلف كتاب «ماهية اللغة وفلسفة التأويل»