ينتابني شعور الفقد حينما يرحل كبار السن، لأن برحيلهم ترحل ذاكرة وتختفي إلى الأبد، فنخسر شهود التجارب والخبرات وصُناع الحكمة وحراس المفردة واللفظة، فأي ألم يعتصر الفؤاد على المكتبات الشفهية التي تختفي بين حين وآخر، وأي ملجأ نلوذ به للتخفيف من وطأة الأحزان سوى الكلمات التي نتشبث بها كلما فقدنا شخصا تحتفظ له الذات والذاكرة معا بالحب والتقدير، فكيف إذا كان الفقيد أحد رعاة الإبل النبلاء الذين كانوا جزءا من ذكريات الأمكنة والطفولة العصية على النسيان أو التجرد من الحنين.

فقدنا منذ يومين الشيخ أحمد بن سهيل سعيد متكي العمري، أحد المعمرين في ظفار، فهو حسب المعلومات المتوفرة من مواليد منتصف العقد الثاني من القرن العشرين، ولأن تدوين تواريخ المواليد في ظفار لم يكن شائعا أو بالأحرى شبه معدم، فإن حسبة تاريخ ولادة المرحوم أحمد سهيل، قد ربطت بولادة بمُعمر آخر هو الشيخ المرحوم علي بن شماس العمري ( توفي 2016)، إذ ولدا في ليلة واحدة، ويبدو أن المرحوم علي بن شماس قد قدّر السنة التي ولد بها، وعليه تم تقدير عمر أحمد. لأن الذاكرة الشعبية لا تحتفظ بالسنوات الميلادية أو الهجرية وإنما بالأحداث التي وقعت وحفرت في ذاكرة المجتمع أحداثها خاصة المؤلمة منها، مثل الأعاصير والمنخفضات الجوية، كسنة (الحيمر 1948) وسنة (الغريقة 1959)، وعام (الدكف بالشحرية الفيضان 1977) أو سنة (قحران/ جرفة)، وغيرها من مسميات الأحداث التي تتطلب المزيد من البحث والتدقيق والتدوين، خاصة وأن بعض الناجيين من فيضان 1977، لايزالون على قيد الحياة ومعظمهم من سكان الجبال، حيث تشبثوا بالصخور أو الثقوب في الكهوف إلى أن خفت قوة الجريان.

تتطلب الكتابة عن الموت انتقاء أصدق الكلمات وأقرب الألفاظ إلى الذات المُعبّرة عن ألم الفقدان، وبتعبير أدق إن الكتابة عن الموت هي انتصار للحياة بشكل أو بآخر، ففي حضرة الموت ينتفي الرياء وتختفي المظاهر الخادعة وبهرجة المزايدات، وتتخلص الروح من ثقلها وتتحرر فتصبح خفيفة وشفافة، تعرج إلى السماء مستودع الخلود والأبدية. فكل ما نكتبه في حالات الرحيل يعصرنا الألم ويهرسنا، لأن من نفتقده نفقد معه شيئا من ذواتنا، فهم كانوا على تماس مع الذات، فالمرحوم، بمنزلة العم ومكانة الأب، فهو ابن الشخصية المشهورة بالبر والتقوى سهيل بن سعيد متكي، وكان -رحمه الله- قد وصى أبناءه بوالدي خيرا، فأصبحت الوصية صداقة. ففي يوم رحيل والدي قبل خمس سنوات، تجشم المرحوم أحمد سهيل عناء تقديم واجب العزاء وقد تجاوز المائة سنة، ولا أخفي أنني تأثرت حين لمحته قادما من بعيد يرافقه حفيده. أما الأمر الآخر الذي نكنه له أيضا أنه شقيق المرحوم (محود إلون) محمد الأبيض المشهور بنبله وحلمه، فعاش كريما محبوبا ورحل بكل أخلاقه وصفاته، محمد الأبيض الذي لا نستطيع أن نوفيه حقه مهما حاولنا ذلك. نعم أشعر بالعجز عن التعبير عند الاقتراب من ذكرى محود إلون، خشية أن يتأثر وهجه بحبر الكلمات.

إن اللجوء إلى العبارات للتعبير عن حالة الشعور التي تنتاب الإنسان حين يمر به طارئ، ماهي إلا محاولة لتخفيف العبء عن كاهل الذات المثقلة أصلا بالهموم، فمن خلال العبارة والتعبير نعبر بين ضفاف المشاعر لبلوغ حالة السكينة والطمأنينة ولو إلى حين. خاصة إذا كانت الكتابة عن الراحلين لا تعني الانغماس في البكائيات والرثاء، بل بما تعنيه مكانتهم لدينا أو نتتبع آثارهم وما تركوه من أثر صالح في المجتمع.

تستيقظ عندي حساسية الراعي إذا شعر بوحشة الإطلال، وينتابني رزيم النوق وحنينها إلى المبارك، كلما فقدت راعي إبل شكلت صورته وهيئته وسما في الذاكرة، فالذاكرة ألم وحنين.