"يحتجزُ الاكتئابُ الناس كرهائن"، فيغدو العقل كعدو مراوغ وهو يجلبُ لأحدنا الجنون ببطء شديد.. هذا ما سوف تتأكد منه عندما تقرأ كتاب "عقلٌ غير هادئ" للطبيبة كاي ردفيلد جاميسون، وكتاب "ظلام غير مرئي" للكاتب وليام ستايرون، رغم أنّ هذا الأخير لم يكن مُختصا مثل "كاي"، إلا أنّ خبرته الشخصية لا تبدو أقلّ أهمية.

ولِدت "كاي" في عائلة ذات طابع عسكري مُنضبط، ولم تكن لتتوقع الحياة التي تنتظرها، ذلك التنازع المُعذب بين نوعين من المشاعر، النشوة العارمة أو الخفوت التام، وهو المرض نفسه الذي كابده وليام ستايرون، وعرّفه بقوله: "اضطرابٌ في المزاج يُصاحبه ألم بالغ الغموض وشديد المراوغة"، ووجد ستايرون أنّ من علاماته: كراهية الذات ولومها، فعندما فقد مبلغا ماليا حصل عليه كجائزة مُهمة، شعر بأنّه لا يستحق الفوز أصلا!

لم تحتفظ "كاي" بتجربتها الشخصية لنفسها، أرادت أن تمنحها للعالم، لإيمانها بوجود من يُكابدون أوجاعا مُشابهة وظلاما يُشبه الظلام الذي يسكن رأسها، لذا اختارت دراسة الطب النفسي، وإنشاء عيادة خاصة للاضطراب الوجداني ثنائي القطب.

تجلس "كاي" على الجانب الآخر من الطاولة، لتستمع لمشاكل المرضى وأوجاعهم ومخاوفهم ورغباتهم المتكررة بالانتحار، بينما تُكابد آلامها وحيدة، فتربيتها الصارمة كانت تمنعها من أن تنهار. يصف ستايرون الأمر ذاته وكأنّ ذاتا ثانية.. شبحا آخر يحاول إنهاء حياته، بينما هو يشاهد تلك الكارثة دون أن يحاول منع الذات الأخرى من اقترافها!

أن تكون الطبيبة مريضة بذات المرض الذي تُعالج منه مرضاها، فذلك وصمة عار كما تصف "كاي"، لكنها في لحظة ما تجد أن حياتها تنهار، زواجها.. علاقاتها، ثمّ تخسر نفسها، تخسر قدرتها المعتادة على قراءة ثلاثة كتب في الأسبوع الواحد.. لقد مرّت عشر سنوات لم تقدر على إتمام كتاب واحد! جوار الكثير من العطل غير المبررة، وسيل من الاتهامات المستمرة دون فهم أو مؤازرة من الآخرين!

تحدث ستايرون هو الآخر عن حسرته لعدم قدرته على الكتابة، ولكن من حسن حظنا أن كانت بحوزته مُفكرة يُسجل فيها يومياته في فترة الاكتئاب، وما يُلاحظه من تغيرات في نفسه الهائجة.. القلق واضطرابات النوم، وكيف أنّه أصبح في عزلة مؤلمة!

قوة الكتابين تكمن في العذوبة التي كُتبا بها، لقد سمحا لنا بأن ندخل عقليهما المشوشين، جعلتنا "كاي" نلمس ذلك العجز لعدم قدرتها على اختيار ما تلبس، وما تأكل، عجزها التام عن رفع سماعة الهاتف لتجيب على اتصال قلق من أمّها! جعلتنا ندخل معها رعب جرعات "الليثيوم". دخلنا عقلها الموشك على الانتحار، ليس لأنّه خيار المُترفين، بل لأنّ الظلمة كثيفة في رأسها المريض!

لقد وجد ستايرون أنّ كتابة رسالة قبل الانتحار ليست بالأمر اليسير على النفس، والعجيب هو اعترافه بأنّ ما وفر الحماية له من الانتحار هو "الذكريات".. الذكريات كانت صمام الأمان الذي دفعه لخوض رحلة العلاج. يقول ستايرون: "يأتي الاكتئاب بشكل غامض ويتحقق الشفاء منه بشكل غامض أيضا".

استطاعت "كاي" أن تكون سندا لأناس يكابدون مشقة هذا المرض الذي يقتل الآلاف حول العالم سنويا. استطاعت أن تُساعد نفسها لأنّها متأكدة أنّ هذا المرض ليس مرضا سيكولوجيا وإنّما هو مرض بيولوجي ورثته من جينات من جذر عائلتها.

وبقليل من التأني يخبرنا ستايرون أنّ مسببات الاكتئاب ترجع لفكرة "الفقد بجميع مظاهره، والأخطر وهو فقدان تقدير الذات"، ولا ينكر أخطاء الأطباء النفسيين، وبالمقابل يؤكد أهمية المؤازرة النفسية، فقد وجد أنّ زوجته "روز" كانت أكثر حكمة وصبرا من طبيبه النفسي!

هنالك الكثير من الدراسات بأثر رجعي تقول بأنّ فان كوخ، نابليون بونبارت، نيوتن، وتشرشل، وآخرين كانوا مُصابين بهذا المرض، وتُرجح الدراسات بأنّ الأدباء والفنانين أكثر عرضة للإصابة به، وقد أكد ستايرون في كتابه أيضا على هذه الفكرة، فذكر "فيرجينيا وولف، سيلفيا بلاث، إرنست همنجوي وآخرين.. وتساءل عمّا دفعهم لإنهاء حياتهم!".

ربما يكمن السر فيما تقوله "كاي": لا يختفي الاكتئاب إلا لكي يحشد قواه لهجمة مُقبلة أشد ضراوة!

وجد "ستايرون" العلاج بالفن مفيد جدا، ووجدت "كاي" أنّ الحبّ عامل مُؤازر، وأداة حماية أيضا.